شوارع الأبيض والأسود
ديسمبر 9, 2017مبررات غير منطقية
ديسمبر 14, 2017
شكر خاص للصديق الشاعر مهاب نصر
I
وراء الباب
1
وراء الباب نقف، أنا وأنتِ،
الباب الخشبي العتيق يفتح على ممر طويل في نهايته غرفة مغلقة،
لا نريد أن ندخل الغرفة ولا أن نعبر الممر،
نريد فقط أن نطرق الباب،
مرة أنت بالداخل ومرة أنا.
أطرق الباب ولا تفتحينه ولا تسألين من الطارق،
ثم تطرقينه أنت ولا أفتحه ولا أسأل من الطارق.
في هذه الأثناء القصيرة كنا قد “عبرنا بحرا وقف الآخرون بساحله”.
2
فتحوا الباب فهبّت أربعة جراء متشبثة بقدميه، انحنى عليها وعندما رفع بصره كانت الجراء قد فرت إلى مكان بعيد. كان الوقت مساء وكانت هي قد خرجت إليه. أغلقوا الباب وتحت جلده وضعوا دودة هائلة، لم يشعر بها أول الأمر.
في مساء آخر قريب خرجت الدودة، بصعوبة بالغة في البداية، حتى ظنها بعوضا ينقر الجلد ويفر هاربا. عندما أمسك الدودة بيديه كان الباب قد أغلق من جديد وكانت هي قد خرجت إليه والجراء فرت إلى مكان بعيد.
3
أفتح النافذة التي تطل على حديقة صغيرة، الحديقة الصغيرة تطل على حديقة أكبر والحديقة الأكبر تطل على حائط باهت بارتفاع عشرة طوابق. إذا ما مددت البصر فسوف أصطدم بالحائط مباشرة ولكي أؤجل هذه اللحظة التعيسة فإنني أخفض بصري ناحية الحديقة الصغيرة التي لا أود استهلاكها بنظرة واحدة ومن ثم أفتح النافذة أولا، أحدق في زجاجها لدقائق ثم في شيشها الحديدي وبكل هدوء أخفض بصري ولا أرفعه حتى ينتصف النهار، ساعتها أمضي إلى الحديقة الأكبر.
هنا شجرة زيتون وارفة وبجانبها شجرة ليمون، أحدق فيها مباشرة وهي تكاد تسقط بأغصانها، الشجرة نفسها التي جفت تماما حين بلغت السادسة من عمري كانت هناك قابعة باصفرارها الذي خيب آمالي، كان مرعبا أن تحب شجرة تعرف أنها تموت يوما بعد آخر، المياه التي كنت أرشها عليها كانت تتشربها الأرض وفي صباح اليوم التالي تهزل أكثر، أحيانا كانت تنتعش للحظات، أوراقها المصفرة تتمايل مع الريح ويبدو أنها أخيرا ستستحيل إلى خضراء، بل إنها كانت تخضر أحيانا لكنها ما تلبث أن تخذلني وتجف فجأة. الشجرة نفسها أراها اليوم بالاصفرار ذاته، بالجفاف، بالموت القادم لا محالة عما قريب، أراها من نافذة غرفتي، في نظرتي الثانية الممتدة إلى الحديقة الأكبر، غدا سوف تموت شجرة الليمون ولن يبقى أمامي سوى الحائط الباهت، أما شجرة الزيتون الوارفة فلا تعنيني بالمرة، الحقيقة أنني لا أراها وإذا ما رأيتها فكشجرة تخص حديقة أخرى لا تقع في مرمى بصري في هذا الصباح غير الممطر والذي يجعل من حياتي صندوق أحذية متربة يمتد أسفل السرير.
عصفورة بائسة تقفز فجأة وتحط على شجرة الليمون، تتنقل بين فروعها بخفتها وزيغ عينيها ولا يبدو أنها تفكر للحظة في الشجرة الوارفة بجانبها، في العراء تقريبا تضع عشها، العش الباهت فوق الشجرة الباهتة أمام الحائط الباهت في هذا اليوم الباهت الذي لم تمطر فيه ولم تطلع له شمس. الشجرة الذاهبة إلى حتفها كانت بعيدة عن المياه، المياه تهبط إليها لكنها تنساها، تتركها هناك حتى تأتي شجرة وارفة ودون استئذان تسحب المياه كلها إليها والأخرى تنظر فقط ولا تعلق، ترى طعامها في أفواه الآخرين وتمعن في الصمت.
أغلق النافذة من جديد، أولا الشيش الحديدي ثم الزجاج، أقول وداعا لشجرة الليمون، وداعا يا شجرتي العزيزة، ربما التقينا في عالم أفضل أكون فيه شجرة ليمون وتكونين فيه شخصا يرص الكلمات بجانب بعضها في الليل ويبكي، لكن لا تقلقي، غدا سأفتح النافذة من جديد وستكونين هناك باحتضارك اللانهائي وأفراخ العصفورة فاتحة فاها والعصفورة حائرة في توزيع الطعام وطعامك بكل تبجح تسحبه شجرة زيتون وارفة.
4
أنا هنا في الصالة وأنت نائمة منذ عشر دقائق،
فجأة يلفحني الحنين إلى تقبيل رأسك،
أدور في الصالة شمالا ويمينا، أتخبط في الأثاثات ويدمى جسدي.
أتجرجر على الأرضية الخشبية حتى أصل إلى حافة سريرك
وبكامل جسدي المجروح أقبع هناك.
نقطة دم وحيدة تنسل من إصبعي لتسيل على جبهتك،
تفتحين عينيك وتشربينها، تنسل نقاط أكثر تشربينها كذلك حتى تجف كل الجروح،
ساعتها تعاودين النوم وتحلمين أن نقاطا حمراء كانت تنقط عليك من السقف
وأن بللا دافئا كان يلفك.
في الصباح تتحسسين العرق فوق جسدي النائم وتحبينني أكثر.
5
“إذا ما أحببتك أكثر فسوف تنسى قدمي المشي”
جملتك العابرة هذه وتدت الغرغرينا في رجليّ والآن يصبح بيتك القريب ذلك البيت خلف منزلنا القديم والذي حاولت التسلل إليه عشرات المرات دون جدوى، وعندما تمكنت أخيرا من صعود سلمه الحجري أصابني الرعب، لا من خيوط العنكبوت ولا حتى من الشقوق التي تقبع بها ثعابين متحفزة، بل من تصلب الرجلين كما في حلم، من نسيان المشي والحجارة والبيت نفسه.
6
اليوم رأيت كينونتك بعيني وأنا أعد الطعام. الكينونة هذه التي طالما أفزعت نومي وجعلتني أراني كنقطة معلقة خارج الأرض دون عظام ودماء وصوت من العدم يهمس لي:
HOMO. ECCE
كينونتك الطائشة في الفراغ اليوم رأيتها بعيني واهتززت في مكاني، تأكدت أن في هذه النقطة البعيدة تكمن حياة لن يمكنني أبدا أن أدخلها.
7
حدقتك نفسها
تنكمش في النهار وتتسع في الليل.
“أفعى الشك”
ستبقى نائمة تحت سريرنا،
أحيانا نداعبها فتفغر فاها مهددة
وأحيانا نتركها هناك مئتنسين بحضورها العنيف.
الأفعى أبدا لم تنفث سمها
وإلا لكانت الحدقة قد اختفت تحت عين مغلقة نهائيا دون نوم
وبجانبها يتمدد جسد نحيف يهتز كمجنون.
8
لشهور طويلة
يتلوى من آلام لا يعرفها،
تطلق عليه من جميع الجهات.
لشهور طويلة
كان هدفا خشبيا للتمرين على ضرب النار.
الرصاصات تنبجس في مواضع مختلفة
لكنه فكر: الألم هو مجرد ألم
مهما تضخم أو امتد فلن يكون له اسم آخر.
9
كنا نفكر أحيانا أن جملة مقتطعة من كتاب
ستعيد التوازن لكل حياتنا،
نستعيدها لمرات حتى نطمئن على عملها
ثم نجهد باحثين عن أخرى.
الجمل تئز في رؤوسنا،
ترطبها وتجعل من صباح اليوم التالي ملعقة من العسل
نتقاسمها بارتياح على عشب الحديقة العامة
ثم ما تلبث جملة جديدة صنعناها سويا أن تحل محل الجميع
جملة صغيرة تزودنا بليلة أخرى
كأن أقول : ولما لا؟
أو أن تقولي: ليكن ما يكون!
10
يمنح العاشق نفسه طويلا، في معظم الأحيان لا ينتظر شيئا في المقابل. لكن ما أن يأكل الخوف روحه حتى يتوقف للحظة في انتظار مردود عمله. هنا تسقط الطّوّالة الخشبية التي ترفعه عشرات السنتيمترات عن الأرض، هنا يعود صغيرا ويرى نفسه في المرآة ولا يفرح.
تمنح العاشقة نفسها طويلا وغالبا دون انتظار شيء في المقابل. في لحظة يتسلط الشك على روحها، تقول إن عطاء أكثر سيجعل مني صندوق قمامة لن يحفل به كثيرا. هنا تضع هي الطّوّالة الخشبية وتعلو عشرات السنتيمترات عن الأرض، ترى نفسها في المرآة أكبر مما كانت عليه ولا تفرح.
11
هو يود أن يلمس هذه النقطة التي تحرك أحشاءها المتشعبة، يؤمن أن نقطة كهذه لابد أن تكون قابعة في موضع ما وأن عليه فقط أن يجهد في البحث عنها وما إن يجدها حتى ستأخذ كل إيماءة أو فكرة مكانها في الكتاب المفتوح الذي يود أن يقرأه بتمهل ساعة الغروب.
هي لا تبحث عن نقطة واحدة بل عن نقاط عديدة تعرف أنها تشكل كيانه الغريب. تؤمن أن كل نقطة على صلة بالأخرى وأنها ستكون منها خريطة ستعود إليها كل ليلة مرارا وتكرارا.
12
تخرج أولا من سلسة الظهر وتمضي في مسارات تخصها قبل أن تقبع هناك أحجارا على الصدر تتسرب منها مياه مالحة إلى البطن وتظل تعمل طوال النهار. الخيالات ماضية في طريقها المحتوم كنسوة ذاهبات إلى المقابر يوم العيد، يتشحن بالسواد ويعدن في المساء بعد حوار طويل مع الموتى يعيد إليهن ابتسامة وغمزة عين وراحة في باطن القدم لم يعرفنها منذ زمن طويل.
13
النهر الذي يمتد تحت بطنك
أحيانا تسمع مراكبه وهي تسبح في رحلة نصف مضاءة
نحو المجهول
تغطيها سموات تنقط من حين إلى آخر بعض المياه.
أحيانا حين يصطخب النهر وتظلم رحلة المراكب
تحت السماء العاصفة ألمح ابتسامة خفيفة على شفتيك
والسنتان الأماميتان تضيئان للحظة قصيرة
تماما كاللحظة التي تتأهبين فيها لتقبيلي.
نهر آخر يمتد فوق بطنك
نهر من زغب لا يرى ولا يمس
أراه وألمسه
أنا عقلة إصبع صغيرة
فوق بطنك
أنا مركبة شراعية
أنا رغوة النهر في مصبه الأخير.
14
كان قد خرج ذلك اليوم من ملابسه التي وضعها على كتفها، كان كمن انتبه فجأة إلى أنه يربي دجاجات ميتة تحت جلده، لا تكف عن النقيق في صمتها الأبدي، نقيق صادر عن الحركة وليس عن الصوت.
الخروج من جلده كان يؤذن بمعارك طاحنة يعرف مسبقا أنه خاسرها، خرج مع ذلك ووضع ملابسه فوق كتفها.
حين مشت بملابسه بضعة أمتار كان يتناهى إليها صدى الدجاجات الميتة وغبار المعارك، لكنها خطت بضعة أمتار أخرى.
أحيانا يرجع وحيدا، نظيفا من الريش والغبار اللذين ينتظرانه على عتبة البيت.
15
ظننت في لحظة عماء مطلقة أن أمرا جللا يقبع في علبة هدايا مغلقة، أدور حول العلبة وبكل شغف أتحسس ورقها اللامع وشريطها الزاهي أتركه هناك لحين بينما تصطك ساقي شوقا وحين أبدأ أخيرا في فك الشريط ونزع الورقة اللامعة يكون قد مر وقت كاف حيث لم أعد أنتظر شيئا من العلبة، أفك الشريط وأنزع الورقة لأجد علبة أصغر بالشكل نفسه، أفكها محموما لأجد علبة أصغر وأصغر، في مزحة سخيفة لا تكف عن التكرار.
16
حان وقت الراحة
كانت الشعيرات الدقيقة قد قررت فجأة أن تهدأ
المعارك الخاسرة ذهبت أدراج الرياح.
خرج الرجل المفعم في ليلة أقل من عادية ومشى عدة خطوات بحذاء المنزل،
كانت تقف وراء الباب، لم يلتفت إليها.
الذين مشوا الخطوات نفسها قبله،
في أزمنة بعيدة وقريبة،
كانوا يدفعون قدميه
وكانوا تحديدا يبدلون طريقه المحتوم
المفضي إلى مقبرة أو قاع نهر،
كانوا يزحزحونه خطوات ليرجع من جديد إلى الباب
حيث لم يعد أحد وراءه.
17
شعراتك الساكنة في السرير، في الحمام، على ملابسي، فجأة ودون انتظار لملاقاتها أجدها هناك تلمع في وجهي. منذ قليل كانت تنتمي إليكِ، كانت تشكل جزءا صغيرا من كينونتك والآن تنتمي إلي لأنها تلمع في وجهي، تسبح هائمة وحدها في البيت. أدور خلفها، أسحبها من مداراتها، أمعن فيها للحظات وأطلقها ثانية في الهواء، لن تعود مرة أخرى إلى جسدك لكنها كذلك لن تغادر بيتي.
18
عندما تغيبين أغطي المساحة التي يحتلها بجانبي جسدك على السرير؛ الذراع اليمنى أضع مكانها رسائل فان جوخ إلى أخيه واليسرى أغطيها برسائل ريلكة إلى الشاعر الشاب، بطول ظهرك أفرد مستنسخا للوحة دافيد هوكني “عباد الشمس والزجاجة”، مكان رأسك رواية “لا شئ” لكارمن لافوريت، عند القدمين قصيدة المدينة لكفافي واللوحة التي رسمتها لي وأنا متمدد في سريرك في الصباح. أشياؤك نفسها التي تشاركنا فيها أحيانا ستغطي سريري. استلقاء واحد على السرير سيعيدك إلي أينما كنت.
19
رفسة ذراع واحدة ظلت مطبوعة وغائرة في مرتبة السرير، كل حركة كانت تعبر فوقها ولا تمسها، كانت تمثيلا رمزيا لصدع في الجبل القريب الذي يتراءى لنا من الشرفة، لم نر الصدع أبدا ولا شعرنا به، لكن كل نظرة من الشرفة كانت تؤكد وجوده، كما تتأكد في كل حركة رفسة الذراع المستقرة على مرتبة السرير.
20
كنا في سفرة قصيرة، اخترنا أن يقطعها كل واحد بمعزل عن الآخر واخترنا ألا نتحرك فيها بأكثر مما نفعل عادة: من البيت إلى الشارع ومن الشارع إلى البيت. لم نفعل أكثر من ذلك، فقط تركنا لخطواتنا اللاهثة أن تهدأ قليلا. قدماي المرسومتان بعناية في لوحتك كانتا قد تشققتا وكان يلزم وصل الشقوق، حشوها بتراب كثيف بحثنا عنه طويلا في رحلات سابقة ولم نعثر عليه، كان يلزم تبليل التراب وسد الفراغات، كان يلزم وضع القدمين في حائط من الجبس وتركهما هناك إلى حين، كان يلزم وضع القدمين في لوحة على الحائط.
21
اليوم أجد رقبتي في المرآة وقد أخذت تماما شكل رقبتك، ذلك الجزء البارز من أعلى الصدر حتى اللوزتين كنت أحدق فيه يوميا وما من مرة ذكرت لك الأمر، ربما كنت تلاحظين وتصمتين ربما هرّبت إلي رقبتك قطعة وراء قطعة. يدك اليمنى الآن صورة مصغرة ليدي بلون أفتح قليلا.
22
قبلتك في الشارع ليست هي قبلتك في البيت.
قبلة الشارع عريضة، تبلع معها مدينة بأكملها، المدينة الضيقة كخرم إبرة والتي لا تمنحك شيئا. قبلتك في البيت هي الخيط الذي تمررينه في الإبرة وتتنفسين الصعداء بعد عدة محاولات لتمريره. قبلتك في الشارع يائسة كأنها الأخيرة تبغي الوصول إلى عمق غير موجود ببساطة، كأنها تبلع الشارع كله. قبلتك في البيت سعيدة لأن لا تاريخ تجره وراءها، قبلة حرة ولا شهود عليها. قبلتك في الشارع ضاغطة ومتشبثة كأنها ستزول في كل لحظة. قبلتك في البيت ناعسة كملاءة السرير. قبلتان في مدينة واحدة وخرم إبرة وخيطها.
23
أود أن أرى هذه العظام في رقدتها النهائية وقد تخلصت أخيرا من شحومها وحركتها… أود أن أراها مكومة في صندوق من الكرتون وأن أحملها معي من بيت إلى بيت ومن مدينة لأخرى، أحملها وأتمدد إلى جانبها في المساء حيث يرطبها عرقي قليلا ويخفف من بياضها وحيث تخفف هي من سيل الخيالات القادمة إليّ في هذه الساعة.
24
جسدك في الصباح ورقة نعناع خضراء، لن ألمسه، فقط أتشممه، لكنه سيكون في حياة النوم، بعيدا عني في عرقه، حيث لا تعرفينه ولا يعرفك، جسدك ملقى هناك على السرير لن يكون حاضرا دون أنفي. لن ألمسه لكنه كلية يتسلل إلي دون تشنج عضلاته ودون إفرازاته الكثيفة التي كنت أنقيك منها كل ليلة ثم تعاود الظهور صباحا، إنه هناك ملقى على السرير دون ألم، إنه ميت كورقة نعناع خضراء.
25
نمنا متعانقين طوال الليل وعندما استيقظت صباحا لم أجدك، ناديت عليك وكنت قد ذهبت إلى العمل الذي تكرهينه، أنام من جديد وأحلم أنك أتيت وأنني أعانقك مرة أخرى. عندما تعودين حقيقة تفتحين الباب وبلغة صافية طالما تمنيتها لنفسي تقولين لي: أموت من أجلك، وأنا أعاود نومي ثانية وكأن الحياة تبدأ وتنتهي مع جملة واحدة تلفظينها في فمي وتذهبين. جفاف فم النائم يمنعه من رد الكلمات لكنه يومئ، يحرك ذراعيه وقدميه وفي احتضاره البطيء تنثال حمم من عينيه. إنه يحبك رغم موته القادم قريبا.
26
انظري،
يا للسعادة!
لقد نسينا بعض الآلام
وأنا ما عدت أذكر،
صدقيني
ما عدت أذكر سوى مارتا الصغيرة التي رسمت شيئا أصفر، شيئا بجسد سائل، ثم أحاطته من كل ناحية بشيء أحمر، ثم أحاطت الشيئين بأسود كبير التهم الأصفر والأحمر. أمسكت مارتا بعصا صغيرة وبسنواتها الثلاث وأشارت إلى الألوان السائلة: الأصفر مارتا، الأحمر وحش يلتهم مارتا، الأسود ماما وهي تلتهم الوحش وبداخله مارتا.
27
كنا نسير في طريق زراعي ليس معبدا تماما وكانت تدفع أمامها عربة طفل صغير ولطيف وكنا نتحدث عن الموت والميلاد. عندما أصبح الطريق أكثر وعورة أخذت منها العربة وأشرت لها أن تتبعني. فجأة تنحرف وتأخذ الجهة الأخرى من الطريق، كانت ترتعش حتى قبل أن تقدم أول خطوة، كانت ستسقط، بل كانت تعرف أنها ستسقط وأنا صرخت نصف صرخة وأفلت العربة.
هي على يمين الطريق وأنا على يساره وعربة الطفل تمضي وحيدة ولا أحد يفكر في انتشال الآخر.
28
أفكر الآن في قلب الظلام، في شكل من أشكال اللحظات الأولي واللحظات الأخيرة، في الغباء الذي يلف كل لحظة منها، ولا أجرؤ على التفكير فيما بينهما، فهو لم يوجد حقا وإن وجد فإنما وجد في موت مسبق لم ينتبه إليه أحد. من يدري. الحياة وجدت بالطبع، لكنها وجدت هناك حيث لم تكوني موجودة بدرجة كافية، إما أن تكوني موجودة تماما وإما لا وأنا أصحو في الليل مفكرا في جدوى هذه العظام المتحركة والرحلة الطويلة كي يستقيم عودها وعفن الأعضاء الحية الذي أقاومه كل يوم وكأن أحدهم لا يكف عن السخرية مني، إلها كان أم حيوانا. مطلقا ضحكة هائلة خارجة من معدة فارغة في البرية.
29
تركت قصيدة صينية في بيتك كنت قد كتبتها بخط منمق ولم أعد لأخذها، فكرت أن جملة منها ستتسرب يوما إليّ، جملة واحدة فيها قارب صغير وأوراق خريفية وبيت خشبي تنقط فوقه الأمطار وبلطة. جملة أفكر فيها كعمل شخصي، جملة واحدة لا رابط بينها، ستخرج إليّ فجأة ذات ليلة وأنا أحاول تذكر قرية بعيدة عبرت عليها يوما دون أن أعي تماما هل غاصت قدمي فعليا في أوحال حقولها أم غاصت رأسي تماما في تكوين صورتها.
30
في مدينة غريبة تطؤها قدمي للمرة الأولى، أبحث محموما عن بيتك في الليل اللا نهائي. فجأة وجدتني داخل حجرة أسمع منها رنة قدميك العاريتين على البلاط وبابك الذي يفتح ويغلق. فجأة ينبلج الصبح وفجأة أصحو في سريرك. لكنها الساعة الثالثة فجرا وأنا ما زلت أبحث محموما عن بيتك في الليل اللا نهائي.
31
الغبار المتناثر من مصنع الدقيق غطى أعواد الفول في الحقل المجاور لبيتك. كان مبهرا تناول الحبات الخضراء بقليل من ذرات الخبز، ولأن الحياة لا تستقيم هكذا فقد نشأ ألم غريب في المعدة وكان عليهم إضافة الحقل إلى مخزن المصنع وها لم تعد هناك دهشة في المدينة والغبار غطى كل شيء بهدوء ودون حاجة لأن يلحظه أحد.
32
لم تكن تلك القطعة العجيبة التي تخرج من عظمة جنبك لتتصل بالارتفاع الخفيف لبطنك، ولا سرتك التي تنام هانئة داخل نسيج مرمري ولا كانت تلك الأقدام التي تسيرين بها والتي تمتد للأعلى في التفافات لم تعرف من قبل حتى تصل إلى منبت نارك، ثم تتكور في منطقة خلفية كقطعة نار تتدحرج على الأرض. ولا كانت ابتسامتك التي تسيل الدموع من المعدة، الابتسامة المريرة التي تجعد وجهك بكامله، كان شيء قادم من أزمنة عجنت بعضها وتركت في كل خلية حية نقطة غامضة تناقلتها أجيال في رحلات امتدت من البغال إلى النوق العصافير إلى عربات الترام حتى هذه الحافلة التي تحملني إلى بيتك.
33
كان شيء يلوح من البيت المقابل لبيتك، سألتك إن كان داخل البيت أم خارجه؟، عندما يعبر النافذتين المتجاورتين بالنور الخفيف الساري منهما فإن سواده إما أنه يتلاشى في الليل وإما أنه يعبر البيت من الداخل ويتخبط في جدرانه. أيا ما كان حرا أم سجينا فإن أقاربه كانوا يصرخون وكان صراخهم ضحكة شبح مجنون يتوسد المدينة الغريبة في مثل هذه الساعة من الليل بينما
أرقب البيت المقابل لبيتك ولا أنتظر جوابا منك.
34
أطوح ذراعي كما كنت أفعل دائما
في بلاد أظنها بلادي
رغم تبرع البعض من تلقاء نفسه بتذكيرك بخطئك
إلا أنني أطوحهما كذلك وأمضي في طريقي
الطريق ليس أمرا صعبا
إما تحفه البيوت من الجانبين وإما من جانب واحد
وإذا خلا من البيوت فهذا لا ينقص من طبيعته شيئا
ومع أنني أمشي في طريق محايد فدائما ما أظن أنني ذاهب إلى بيتك
أو عائد منه
بيتك الذي على وشك أن أنساه نهائيا
لكنني أبدا لا أنسى الطريق إليه.
35
تصدح الموسيقى طوال اليوم في البيت الجديد
في الدور الثاني العازفة تأتي في التاسعة صباحا ولا تنتهي إلا بعد أن تأتي زميلتها، والمعلم يبقى حتى ساعة متأخرة.
في الدور الرابع يقبع رجل لا يتحرك إلا بين غرفته والحمام والغناء هو أمله الوحيد، متجاهلا عزف الفتاتين والمعلم، لا يكف عن غنائه حتى في منتصف الليل.
مرة وضعوا له ورقة على الباب: “كائنا من كنت فإن صوتك يؤنسنا”.
في الدور الرابع أيضا تصعد حورية حاملة كمانا وأبدا أبدا تعزف داخل البيت.
في الدور الخامس بيانو قديم لا يمسسه أحد، حضوره الرمزي أقوى من كل اعتبار آخر.
في الدور الثالث عصفور أصفر في حجم أربعة أصابع من يدي، يوقظ من يقدر عليه صباحا وأولهم صاحبته العجوز المتأففة من البيت كله.
في الدور السادس يعيش كاتب أرادت الظروف أن يحمل اسم عائلة أدبية شهيرة يخلط الجميع بينه وبين ابن عمه، النجم الساطع
التقينا مرة على سلم الدور الأول، رمقني بتلك النظرة التي بها يتعرف النقاشون على بعضهم، من دون حتى أن يشتموا رائحة العمل على الملابس، لم نتبادل حتى تحية الصباح، كان يصعد حاملا كيسا يعج بالكتب وأنا كنت أهبط السلم خفيفا ذاهبا للقائكِ، كان متعبا وتنتظره أدوار ست في بيت بلا مصعد وأنا خرجت من البيت وأحببت الموسيقى.
36
بالأمس كنا نمضي أنا وأنتِ في شارع مشجر في قرية صغيرة ذهبنا إليها بعيدا من مدينتك القاتلة وعدنا بآلام مبرحة، كان يمكن أن نعود كما ذهبنا لولا أنه في حركة سريعة تراءت لي رِجْل أبي التي استحالت إلى عظمة يعلوها جلد مجعد في اليوم الثالث قبل رحيله، العظمة وقد انسلخت من جلدها، كانت كمن يبتسم لي في القرية البعيدة. في ظلام الغرفة كنت تصرخين محمومة أن جلدا مجعدا يعلو عظمة فخذ يتراءى لك، وأن مقابر القرية يغطيها ثلج أسود تنبت فيه شواهد نحيلة لها هيئة أقدام تمضي في كل اتجاه.
37
صديقتي العارفة تؤكد على الطاقة القادرة المنبعثة مني ومن الهواء الذي يحيطني وأنها أحيانا تخاف أن تلمسني عندما تكون هي في حالة متوازنة من الطاقة، لكنها أبدا وللأسف لن تصل إلى طاقتي المعجزة، أحيانا أخرى كانت تحك ذراعها في ذراعي لمدة ثوان حتى أنقلها إليها وتتمكن من قضاء اليوم بشكل معقول.
صديقتي، التي كانت تحلم بي ليلا ويتحقق ما حلمت به صباحا وهي تبكي، غادرت المدينة بعد أن ألقت ابنتها الصغرى بنفسها من شرفة الدور الحادي عشر، الدور نفسه الذي تقطنينه الآن. كان حلم صديقتي أن تموت داخل الهرم الأكبر وأن تتلاشى في تلك الطاقة الكونية التي تظن بتركزها هناك وكان حلمك أن تموتي بين ذراعي.
أرأيت؟ من يحقق أحلامه في هذه المدينة؟
38
اسمك في الإيبيرية القديمة “نهر”
وليس الأمر بعيدا تماما،
دون الرموز الملقاة على قارعة الطريق
فقد علمتني السباحة في ساعتين
أغطس في الماء وأنت بانتظاري على بعد ستة أمتار
ودائما أصل إليك.
كان لجلدك رائحة أعشاب تنمو على الضفتين
منقطعة الجذور، شبه ميتة شبه حية،
وكان تيار من الجنون يصيب عينيك فتنحرفان عن مسارهما وتتفرعان كدلتا
وشيء مظلم يموج داخلك
كانت أسماك حية ترعى فيه، تتغذى على ضحكتك التي تفلت منك أحيانا
وأبدا حملت مركبا إلى بر الأمان
لا عائلتك ولا لوحاتك ولا أنا الذي كنت ألمس شفتيك وأجد فيهما
هذا الماء المندفع دفعا إلى مصبه المحتوم.
39
قلت لك مرة إن أمي ستموت
بينما أنا بعيد عنها وبعيد عنك،
ستضع الملابس والمفارش والأغطية في الغسالة
ستكنس البيت ودرجات السلم
ستمسح أتربة الشرفة
ستغسل الأكواب والأواني
ستطلب حقنة لتنظيف الأمعاء
ونعناعا وحماما ساخنا
ستجلس على حافة السرير
وتقول امنعوا عني الهواء لثلاث دقائق
ستبتسم لصورتي
وتقول لنذهب الآن.
40
كان شيء أخضر عالقا في أسنانك، شيء صغير في حجم شامة لا يلحظها أحد تحت منبت شعرك مباشرة، شيء يظهر فجأة بين أسنانك ويظل هناك لساعات، أنقله بعيني إلى موضع آخر ثم أعيده إلى مكانه القديم، أداعبه وحدي دون أن تعرفي شيئا عن الأمر، أنزعه من مكانه وألقي به بعيدا وأعيده مرة أخرى، أنت في موضعك وأنا أذهب بك في رحلات لا تنقطع نذهب فيها معا وأعود منها وحدي.
41
يحفر الواحد نفقا ويمضي فيه وحيدا، ظنا منه أنه يحفر كي يصل به النفق خارج أرضية الزنزانة وما أن يشتم الهواء الجديد حتى يجد أنه قد عاد إلى الناحية الأخرى من زنزانته.
اليوم أمضي في الشارع مرعوبا، سيارة تشبه سيارتك، شعر فتاة قريب من شعرك، حذاؤك وحقيبة اليد.
42
كانت كمن حملت إليه فجأة حياة عاشها أسلافه على الجبال وما عرفها أبدا، لكنها كانت تبرق له أحيانا في لقطات بطيئة، ربما يتخيل كذلك أسلافا عاشوا على الجبال وربما يتخيل رائحتها جالبة الأجداد، كتلك الدبابة الصفراء التي وضعوها بجانب سور واطئ في شارع مظلم وحيث لا يمر أحد من هناك، لكنهم وضعوها لحراسة هدف بعيد لم يتمكن أحد من التكهن به، سبب غامض لكن الحقيقة أن توافقا جماليا مذهلا كان بين كتلة الدبابة الصفراء وبين السور الواطئ الممتد إلى جانبها.
4
ذراع تغلق نافذة
وترخي ستارة
تسقط منها نقطة دم على الإفريز
النقطة لا يلحظها أحد
حتى وصولها إلى الدور الأرضي
وهناك تنزوي في شق من الحائط.
لم يكن ثمة أحد
كل ليلة
وبكل قسوة
يغلق النافذة
على قلبي.
44
كنتُ على سريرك والسماء كانت تشغل سقف الغرفة، كما لو خطتها يد دون أن تبرق النجوم والكواكب. غرفة لها سقف هو السماء بكاملها وبينما أتأمل الظاهرة محاولا فهمها رأيت كما لو أن النافذة الزجاجية تعكس صفحة السماء ولم يكن الأمر سوى تفسير أولي، كانت السماء حقيقة لكنها فقط لا تلمع وحينئذ دخلتِ الغرفة فاختفت السماء وكنت أنا كلص تسلل إلى بيتك وارتاح على فراشك ثم اعتذر لك ومضى.
كنتُ على سريرك والسماء كانت تشغل سقف الغرفة، كما لو خطتها يد دون أن تبرق النجوم والكواكب. غرفة لها سقف هو السماء بكاملها وبينما أتأمل الظاهرة محاولا فهمها رأيت كما لو أن النافذة الزجاجية تعكس صفحة السماء ولم يكن الأمر سوى تفسير أولي، كانت السماء حقيقة لكنها فقط لا تلمع وحينئذ دخلتِ الغرفة فاختفت السماء وكنت أنا كلص تسلل إلى بيتك وارتاح على فراشك ثم اعتذر لك ومضى.
45
كان إما أن نصل عبر مرتفعات تتفرع منها حوار وشوارع ومضايق يملؤها حاملو الأسلحة أو أن نقف على حافة صخرية ونبدأ في النزول على ارتفاع مدوخ، المسافة بين المستويات الصخرية الملساء كانت بطول الفرد منا مرتين، السقوط هو الأمر الأكثر احتمالا لكننا آثرنا النزول من هناك. لم نعرف أبدا إن كنا قد وصلنا في النهاية أم أننا واصلنا الانزلاق، غير أننا رأينا لمعة في الشارع تقترب وتبتعد حتى أننا كدنا أن نلمسها مرات وكذلك ابتعدنا عنها مرات أخرى.
46
يعلمها الكلمات الغريبة
وكل كلمة تضعها تحت لسانها ولا تطلقها إلا مبتلة
بأيام بعيدة لم يرها فيها
يؤلمه نطقها للكلمات الغريبة
والألم في موضع لم يتمكن أبدا من تحديده
في الحديقة يقرأ كفها الصغير
وتشهق مع كل تفصيلة يعرفها عنها قبل أن يراها
يدها سرب نمل لا يتوقف عن الدوران
وهو يجمع الفتات التي تتساقط منها ويضعها بجانب الحائط
ويعود لمسح يديها بزيوت اخترعها اختراعا لتناسب مسامها المفتوحة
تأتي إلى غرفه الضيقة وعن كل واحدة تقول إنها الأجمل بين الغرف
وينحشران سويا في منتصف السرير.
تحدثه عن ذراعها الذي أصبح له وعن قدمه التي تسير بها أحيانا
في حدائق واسعة باحثة فيها عن أشياء سقطت منها في أيام متعاقبة
تكتب آلامها العجيبة في ورقة وتتركها للرجل العجوز الذي يرتب حياتها
مقابل حفنة أسبوعية من المال
وما إن يعميها الشك حتى تصرخ كقريبنا العائد من الحرب بقدمين متورمتين
روحها عملة معدنية سقطت على الأرض ولا تكف عن الرنين
أرادت أن تموت معه، أن ينحشرا في السرير ولا يصحوان بتاتا
لكن الرنين لم يتوقف وخرجت صباحا إلى العمل
كان يغني لها بصوت رخيم استعاره من جده البعيد
الصوت مقلاة زيت تغلي على خديها
وصوته يسحبها من رأسها إلى بلد غريب
تسير فيه مطمئنة
بين أناس لا يصلون إلى عينيها المحمرتين دوما
عادت إليه من القرية
حاملة معها أقراصا من الشمع تذيبها على فخذيها ولا تتأوه.
47
كان مستوى الأرض يعلو ويهبط ويحملنا معه فنرى شاشة عملاقة ممتدة أمامنا، يرى كل واحد فيها أباه وأمه وحفنة أصدقاء وأقارب في أوضاع مختلفة، ثم يهبط مستوى الأرض تدريجيا ولا نعود نلمح الشاشة. في هبوطنا يمتد أمام أنوفنا حائط من الطين تنبت فيه بعض الأعشاب، تنقبض قلوبنا ومن جديد يعلو مستوى الأرض، نعود إلى الشاشة ويتغير قاطنوها. فجأة نلمح على يميننا سردابا صاعدا إلى الأعلى، نتشبث به ونتذكر في كل لحظة أرضيته الإسمنتية والغبار الخفيف الذي تثيره خطواتنا وأقدامنا الثقيلة الهاربة لتوها.
48
بيت أزرق
هو آخر ما تراه عينيّ من النافذة،
بعده لا شيء.
يلوح لي غائما
والحياة داخله أبدا لن أعرفها
لكن الكتلة الزرقاء
تغلف عينيّ يوميا
كأن حياتي تقبع هناك
كأنني أصحو في البيت نفسه
على وقع أقدامك الذاهبة إلى العمل.
49
بالكثير من الدخان وبغضب يقصم الظهر تنافسنا على إغلاق الباب، كل من جهته، على تحويل حياتنا معا إلى قطعة خشب في أقل من ثانية، قلنا لها، كل في سره، أن تبحر بعيدا، أن يأخذها تيار جارف. لم يكن من المستغرب أبدا أن تئن قطعة الخشب بين أيدينا وهي تشهد خيبة الأجساد المتحركة.
50
عندما تحاول في منتصف حجرة أن تترنم بأغنية بعيدة، أن تنفخ النغمة لتطير إليها لكن الوهن لا يدفعها أكثر من سنتيمترات خارج الحجرة، أن تلضم جسرا من الكلمات تنطلق بقوتها الذاتية لتصل إلى شباكها فتسقط في منتصف الطريق، فكر أنك في منتصف حجرة وأنه ليس عليك أن تترنم أو تلضم أي شيء، فأنت في منتصف حجرة وفي منتصف الحجرات ليس على المرء سوى أن يتمدد واضعا طوبة تحت رأسه وفي ملابسه البيضاء المشدودة بإحكام على عظامه يمكنه بالكاد أن ينسى.
II
النائم الذي لم أره
عالق في خشب السرير، اليد اليسرى تتوسد الرأس. حركة لطيفة ولا شك تجعل من وضع المتمدد بتخبطاته جسدا لا يلحظ، يلحظ فقط عند سقوطه على الأرضية، فيبدأ في وضع القدم اليسرى فوق اليمنى ثم اليمنى فوق اليسرى، يخفض الاثنتين إلى مستوى الفراش، فمنقلبا على الجانب الأيسر وضجرا على الأيمن.
أحيانا يبكي خطأ الطبيعة الممتد لكنه لا يبكي ولا يبتسم حقيقة، يرى خطأها الممتد في أجساد أخرى ويتألم هو.
*
ماذا يفعل بهذه الأعضاء الصغيرة الثائرة، هل يكومها بجانب الحائط؟ أم ينكش فيها عله يجد بين طياتها المتزاحمة شيئا يسليه. حبة كبيرة مثلا يدور حولها بإصبعين باحثا عن مركزها حاثا البياض المتكوم حديثا في منتصفها تماما على الخروج إلى النهار.
*
عالق في خشب السرير يداوي العرق بملابس جديدة، يكوم المبتل منها في أحد الأركان ولا يخفيها عن ناظريه، يتركها قريبة منه، لا رائحة لها لكن رطوبتها تعينه على نوم آخر يقترب شيئا فشيئا.
*
عالق في خشب السرير تهبط عليه قطط سوداء في غرفته المظلمة، تخمش قدمه أولا، في انتفاضة المذعور تكون قد وصلت إلى رأسه. الرأس الكبير يتخبط في ثلاثة أمتار مربعة هي كل ما لديه ولا يعرف ماذا يفعل. أخيرا يقبض القطط في الظلام ويطلقها وينتظر خمشات جديدة في ليال أخرى.
*
في حديقة عامة ذات صباح شتوي أخبر صديقه أن لعابه الجاف غالبا سوف يزداد جفافا في أيام قريبة وأنّ على صديقه ألا يحزن عندما تكون نقطة اللعاب الأخيرة قد انزلقت إلى الداخل حاملة معها الكلمة التي ود أن يحتفظ بها من أجله.
*
صنع لنفسه أقماطا من القماش، حشاها قطنا وخاطها بنفسه لتناسب حركة رجليه القصيرتين. الماء الذي تسرب لن يعود إلى مكانه، ستشربه هذه الأرض الجديدة. كان يضحك متذكرا حكمة أمه: كبيرنا كصغيرنا. كانت الأقماط قد أذنت بعودته، لقد كان صغيرا جدا لدرجة أنه سيتلاشى نهائيا عما قريب.
*
الذراع يجب إخفاؤه لأن عرقا نافرا فيه كان يقفز فجأة ودون مقدمات معروفة. العِرْقُ يصطدم بداية بخيط ينسل من القميص فيهيج أكثر. قطع الخيط بأسنانه وهدأ العرق قليلا. كان يجب أن يصحو فجأة ليكتشف أن العرق النافر هو أشياؤه المعلقة في الغرفة خلف الباب، أنه علقها بنفسه وتركها تدور هناك. كان يجب أن يصحو فجأة ويخبط الباب فتسقط كل الأشياء.
*
كل امرأة جديدة عرفتها تركتُ له ليلة معها، يتشربها وحده. تفتح المرأة عينيها وتقول لي:
عيناك هذه الليلة أوسع من المعتاد، إن يديك… يديك… لا أعرف كيف أشرح لك الأمر. أبتسم فقط وأترك له أن ينصب شركه ويوقع بهنّ وفي الصباح يعود ثانية إلى البيت.
*
يضع منفضة السجائر بجانب رأسه، لا تؤذيه الرائحة الميتة، يملأ أنفه بها ليس لأنه حزين بل لأنه لم يعد يفهم تلك النبضات المسرعة التي تباغته أحيانا. يحدق في رماد السجائر وأحيانا يدس إصبعه هناك، يهبط الكتل الصغيرة الهشة وينام بجانبها.
*
حمله أخوه بين يديه وسار به تحت الشجرة، وضعه هناك ثم أغلق الباب بحجر كبير وسد منافذ الهواء. بعد أيام تألم فعاد ووضع الشجرة بجانبه، جعل رأسه على جذعها ويده تحت رأسه. وضع القدم اليسرى فوق الركبة اليمنى ثم أغلق الباب ومضى. بعد أيام تألم أكثر لكن الشجرة، هذه المرة، كانت قد تكفلت بالأمر وسدت كل منافذ الهواء.
*
الدم ذاهب في نزهة،
ذاهب لالتقاط أنفاسه في جسد آخر،
في جسد من أسلاك شائكة وزجاج
وأنت تنتظره بلا كلمة واحدة،
كان طفلك الذي تأخذه من يده على باب المدرسة وتذهبان للبيت،
طفلك الذي لم يأت أبدا،
لكنك كنت تأخذه كذلك وتربت على كتفيه.
كان شوكة لم تنزعها بتاتا من عجينة طرية
صنعتها أمك في يوم بعيد،
بدورها لم تجف في أي وقت،
كان أصدقاؤك،
معك أم بدونك،
كان حبا لهثت وراءه طوال الأيام
وما إن تجده حتى تتصلب الشرايين ولا تسمح بدفعة ولو صغيرة،
فتهجره ما إن يبدأ.
الدم ذاهب الآن في نزهة طويلة
ذاهب إلى الشجرة
ذاهب إلى أوراقها الحمراء
التي تتساقط فوقك
الدم يعود إليك من جديد
وهذه المرة لن يغادرك بتاتا.
……….
صدر عن دار ميريت ـ 2013
…………………………….
اقرأ أيضاً عن ديوان “منتصف الحجرات”
***
طارق إمام
هيثم الورداني
مازن معروف
علاء الديب
أمجد ريان
عبد الحكم سليمان
حسن عبد الموجود
ناصر فرغلي
أشرف الجمال
مينا ناجي
محب جميل
أحمد ندا