منتصف الحجرات.. بلاغة الانسلاخ والحلول

نوافذ مفتوحة.. وهدايا مغلقة
ديسمبر 15, 2017
ترجمات
ديسمبر 15, 2017

طارق إمام

يمثل اللعب فيما يمثل، فعلاً استعارياً، لا يحاكي الواقع، لكن يكثف القيم أو المقولات الرئيسية التي ينطوي عليها.  وبالقوة نفسها، يذهب اللعب إلى التجريد والاختزال، تجريد الذوات في أدوار واختزال العالم إلى مكان واحد ينوب عن جميع الأماكن.  هذا بالضبط ما تفعله “منتصف الحجرات”، المجموعة الشعرية الأحدث لأحمد يماني، (دار ميريت)، حيث الشعر نفسه هو اللعبة الاستعارية وهي تطرح خطابها على أنقاض سرديةً محفزة، رافضةً الانصياع لإمكانات المحاكاة التي تنطوي عليها.

عبر جناحيها الكبيرين الممثلين في قصيدتين وحسب، تطرح التجربة مقابلةً مرآوية: العاشق في لعبة انسلاخ يؤسسها النص الأول “وراء الباب”، والقرين في لعبة حلول يبسطها النص الثاني “النائم الذي لم أره”. كأن الحياة المفقودة في النص الأول تجادل الحياة المستعادة التي يقاربها النص الثاني، وكأن النصين يتقابلان في طرح مقولتين متناقضتين: الانسلاخ عن ذات/ الحلول في ذات.

إنه لعب مع الزمن نفسه، فبينما يمثل الانسلاخ إحالةً ماضوية لاتحادٍ لم يدم، يشكل الحلول فعلاً مستقبلياً. الأفقان، يشتركان في وجود الذات الشاعرة شريكاً، و”الحجرة” مكاناً.

ليس عبثاً وفق هذه القراءة أن ينهض العالم الشعري لـ”منتصف الحجرات” بأكمله على لعبة: “وراء الباب نقف، أنا وأنتِ،/ الباب الخشبي العتيق يفتح على ممر طويل في نهايته غرفة مغلقة،/ لا نريد أن ندخل الغرفة ولا أن نعبر الممر،/ نريد فقط أن نطرق الباب/ مرة أنت بالداخل ومرة أنا./ أطرق الباب ولا تفتحينه ولا تسألين من الطارق،/ ثم تطرقينه أنت ولا أفتحه ولا أسأل من الطارق”.

يَعِد التأسيس بأن اللعبة  مقبلة،  لكنه لن يلبث أن يحنث بعهده،  لتؤكد جميع المقاطع التي ستتلوه، العكس بالضبط: لقد انقضَت اللعبة، ولم يعد للقصيدة إلا استعادتها وتأمل المقدرات التي أتت عليها. إن اللعبة في واقع الأمر، هي هذه الخدعة بالذات وهي تُمثَل بالزمن: فمستقبل القصيدة هو ماضي الذات. أي ذاتين هنا تتفقان (تتآمران) على ألا تجمعهما حجرة واحدة؟ إنهما ذاتان اتفقتا على أن مكانهما الجديد يجب أن يقبل القسمة على حجرتين، كونهما عادتا لأصلهما كمثنى بعد خبرةٍ لم تدم بتجريب الوجود كمفرد.

إدارة الوعي عن العالم الذي يرقد بالخارج، والتأكيد على انعدام الرغبة في المغامرة (عبور الممر وكشف الغرفة المغلقة)، هو في الحقيقة مفتاح لعبة التجربة الشعرية: لن نغادر مكاننا حتى إن متنا فيه.. وبحيث تنهض الحجرة كعلامة مكانية مشبعة بالحياة والموت معاً. مِن هنا تتكثر دلالات انتصاف المسافة التي يطرحها العنوان وتعمقها القصائد،  حيث تقف الذات نفسها على مسافة متساوية من الحجرة كوعاءٍ مثاليٍ للحسية، ومنها كمقبرة نهائية للجسد.

***

تبذر القصيدتان مقاطع صغيرة، يندر أن يفيض الواحد منها عن حدود الصفحة الصغيرة ليكتمل في تاليتها.

كأن القصيدة، هذه المرة، يجب دائماً أن تنتهي في مكانها.

إنه المجاز الكبير لهذه المجموعة: الموت في مكان الولادة، والنهاية حيث البدء. مجاز تلح عليه القصائد، ويلخصه بكفاءة السطر الطويل الذي اجتُزأ العنوان منه: ” أنت في منتصف حجرة وفي منتصف الحجرات ليس على المرء سوى أن يتمدد واضعاً طوبةً تحت رأسه وفي ملابسه البيضاء المشدودة بإحكام على عظامه يمكنه بالكاد أن ينسى”.

البنية الدائرية هذه تجد لنفسها مكاناً في جرأة اللغة على تمثلها. إنها بنية مغلقة تلائم حجرات فقدت أبوابها وظيفة الانفتاح على الخارج.  شحيحة هي الفواصل في “منتصف الحجرات”، شحيحة حتى أنك تشعر بالسطور وهي تضج منها وتتململ محاولةً إزاحتها. تكاد كل قصيدةٍ تكون سطراً سائلاً، طموحاً في تدفقه مثل زفرةٍ طويلة الإيقاع هذه المرة يكتسب قوامه  من جموح السطر الشعري عندما يصبح، مرة تلو الأخرى، قصيدة.

إنه بدوره مجاز آخر كبير تترجمه اللغة:  سطر واحد يساوي، في كل مرة، قصيدةً مكتملة. لكنه أيضاً مجاز الدائرة وهو يتسق مع طرحه اللغوي، حيث لا فواصل على قوسها تتيح للزمن أن يبدأ من نقطة أو ينتهي عند أخرى.

كذلك تجسد البنية الدائرية نفسها في التكرارات الغزيرة لعبارات بعينها، والتقابلات الدلالية لعبارات أخرى ،ما إن تختفي حتى تعود، وكأنك تعود معها لنفس النقطة التي انطلقت منها على القوس.

***

ثمة غرام مبتور يحل كموضوعة شعرية في النص الأول: هذا أفق حاضر بلا مواربة. لكن الغرام هنا لا يبذر حنينه الجاهز، فالذات الشاعرة تقاومه، بإبطالٍ عميق لمناطق التأثير العاطفي الرخوة فيه. الإبطال المقصود ينطلق من اللغة بالذات: نحن أمام اشتغال يذهب مباشرةً للاقتصاد اللغوي، ويُعطِّل بقسوة الإمكانات الماثلة للتداعي والاسترسال، لينزاح بالتجربة، في الأخير، من جانبها الوجداني لجانبها الذهني. إنه الانزياح نفسه من “المبنى الحكائي” لـ “المتن الشعري”.

الإبطال، على مستوى البنية، يعكسه تفتيت القصيدة “الكبيرة” ذات المركز الدلالي الوحيد والمشع إلى خمسين مقطعاً. يلعب التقطيع في الحقيقة دوراً مناهضاً للاستسلام السنتمنتالي، فبتكثير المراكز (مركز صغير لكل مقطع عوضاً عن مركز ثقيل لنص سائل)  تفقد الذات الغنائية سلاحها الماضي: الاسترسال المتكئ على فائض اللغة.

هكذا تتحول الذكرى إلى موضوع للتأمل وليس الاجترار: “اليوم رأيت كينونتك بعيني وأنا أعد الطعام. الكينونة هذه التي طالما أفزعت نومي وجعلتني أراني كنقطة معلقة خارج الأرض دن عظام ودماء”.

لنلحظ أن الحسي يشتغل على المجرد، ويتخذه موضوعاً للإدراك. إنه الجانب الثالث لإبطال الفعالية الجاهزة، والمتصل هذه المرة بالمنحى الدلالي.  ومثلما تذهب حاسة البصر مباشرة للكينونة، لتصبح الأخيرة موضوعاً حسياً للفرجة، ستصير كافة المجردات موضوعات للحواس.

هكذا ينتصب السؤال الدائب، حول العلاقة بين الثقافي والحسي، حيث، من جديد، تقف الذات في منتصف المسافة بينهما: “كنا نفكر أحياناً أن جملة مقتطعة من كتاب/ ستعيد التوازن لكل حياتنا،/ نستعيدها لمرات حتى نطمئن على عملها/ ثم نجهد باحثين عن أخرى./ الجمل تئز في رؤوسنا،/ ترطبها وتجعل من صباح اليوم التالي ملعقة من العسل/ نتقاسمها بارتياح على عشب الحديقة العامة/ ثم ما تلبث جملة جديدة صنعناها سوياً أن تحل محل الجميع/ جملة صغيرة تزودنا بليلة أخرى”.

الآليات نفسها تنسحب على النص الثاني “النائم الذي لم أره”. في النص الثاني، تحل ذاتٌ مُذكَّرة، أقرب لقرين، يجري إنتاجها بالاتكاء على الضمير الثالث. “هو” غير المتعين، يجري رصده، وتأويله شعرياً، بمشهديةٍ دقيقة، وفي حجرة لا يمكن أن نتأمل مردودها بمعزل عن أفق الاحتضار. أحد عشر مقطعاً _ غير مرقمة هذه المرة_ ترصد شخصاً “عالقاً في خشب السرير”، وهي عبارة تكرارية تمسك بعصب المقاطع المتلاحقة لتؤكد على ماهية الذات العاجزة التي تحتل صدارتها. “السكون” إذن مدلول حاضر بشدة في هذا النص الثاني، سكون يقابل الحركة الدائبة التي يتوفر عليها النص الأول، بنقلاته الحادة بين تفاصيل تبسط مناخات متراوحة. وبينما تقيم الذات المتوحدة علاقتها مع الأفق الطبيعي ممثلاً في “الشجرة”، الثابتة والمتجذرة تحت الأرض، كانت الذات في النص الأول تؤسس علاقتها بالطبيعي ممثلاً في الطاقة الغريزية المتحركة فوق الأرض بل والمناقضة لقانونها أحياناً: بدءاً من الجراء ووصولاً للعصافير.

في “النائم الذي لم أره”، يتحقق الحلول في أشد صيغه عنفاً، عندما يحضر ضمير الأنا لمرة واحدة: “كل امرأة جديدة عرفتها تركتُ له ليلةً معها، يتشربها وحده. تفتح المرأة عينيها وتقول لي: عيناك هذه الليلة أوسع من المعتاد، إن يديك… يديك… لا أعرف كيف أشرح لك الأمر”. هنا يتحقق الاندماج المستحيل باقتسام امرأة واحدة، تتساءل بالكاد عن الفروق بين ذاتين، دون أن تملك القطع بوجود هذه الفروق.

تنتهي القصيدة بضمير المخاطب، الذي يحل بدوره لمرةٍ وحيدة، وهو يُتوج النص بمناجاةٍ، تأتي كإشراقةٍ غير متوقعة بعودة الدم للجسد الميت، وكأن النص الكبير الذي بدأ بالموت يجب أن ينتهي، شأن جل الميثولوجيات التي عرفتها البشرية، بالبعث: “الدم يعود إليك من جديد/ وهذه المرة لن يغادرك بتاتاً”.

وبالآليات نفسها التي عملت بها اللغة وتشكلت عبرها البنية في تجربة “الحياة المفقودة” بالنص الأول، تتحقق تجربة “الحياة المستعادة” بالنص الثاني، وليكتمل في الأخير النص الكبير بوجهيه وبرهانه الصعب: حيث الحياة والموت في ذروتيهما قابلين للمقاربة بالطريقة ذاتها.

***

بالضبط مثلما تبذر الحجرة تفاصيلها أمام الرائي بركن أو تفصيلة أو حتى قطعة أثاث، يعمق الكتاب هنا مع كل صفحة واحداً من أركانه. الكتاب كمكان، والصفحة باعتبارها غرفة: إنه مجاز آخر لا ينبغي العبور عليه.

الحضور الفادح للمشهدية، يخلقه الحضور الفادح للعلاقات المكانية هنا، فالحجرات التي ينثرها النص بجناحيه، تؤذن لسلسلة من الأفعال المرتبطة بالإدراك المكاني. ثمة جدل فادح بين “هنا” و”هناك”، “أعلى” و”أسفل”، “قريب” و”بعيد”. وفي القصيدتين أيضاً، إعمال عميق للحدس الباطني بالمشهد العابر والتجربة الحسية، بحيث يصبح كل مقطع، على وجه التقريب، حلم يقظة مشيد على أنقاض الواقع الذى خلقه. هل تصلح “منتصف الحجرات” وفق هذه الرؤية لتكون “قصيدة أطلال”؟ ربما، لكنها تكبح البكاء المتشج بنواح الذات على مكانها المتهدم. الهدم هنا، وربما كان هذا هو الفارق الجلي، هو إرادة الشاعر  نفسه.

“الفتح” و”الإغلاق”، فعلان يمسكان بعظام أغلب القصائد، وكلاهما يحيل إلى مكان غير مفتوح، “فتحوا الباب”، “أفتح النافذة”، “أغلق النافذة”.

“الخروج” و”الدخول” فعلان آخران متصلان بالفعلين الأولين. فعلان يجعلان من الجسد نفسه مكاناً “خرج من ملابسه التي وضعها على كتفه”، ” الخروج من جلده كان يؤذن بمعارك طاحنة يعرف مسبقاً أنه خاسرها”. ثم يأتى بالتوازي استخدام شعري للقيم المكانية “هنا” “هناك”، “فوق” “تحت”.

لكن المشهدية هذه، دعنا نقترح، ليست نابعة من المشاهدة الأولية أو من المشهد في معطياته الحسية المباشرة. دائماً يجري استبطان المشهد، لإعادة  طرحه في سياق “مشهديةٍ شعرية” منزاحة عن نظيرتها السردية، ومن ثم للنهوض به كتشكيل.

هل انتهت اللعبة إذن مع الصفحة الأخيرة؟ بالتأكيد لا، بل ربما بالكاد بدأت، لأن العلبة التي كلما فتحتها الذات لتجد بداخلها علبة أصغر في أحد المقاطع، لن تصل أبداً بهذه الذات إلى كنز يرقد في القاع، بل إلى سؤال جديد ينتظر من يعثر عليه، ليطفو!