أمجد ريان
نعيش اليوم مايمكن أن يسمى “بالحداثة الفائقة” ، حيث تتصدع الحدود التقليدية لكافة الأجناس الأدبية ، مثلما تصدعت الحدود بين الفنون ، أو بين العلوم والمعارف ، وأصبحت الأشياء تتبادل أدوارها ، والنص الشعرى لـ”أحمد يمانى” يستفيد من فنى القصة والمسرح بجلاء ، ويهتم بتأكيد النهاية الرمزية لعصر المكان بمعانيه التقليدية ، فنحن هنا بإزاء الباب كمكان يفتقد هذه المعانى التقليدية ، ليترابط مع أماكن أخرى ، ومع معان أخرى ، ليتأسس ذلك العالم المترابط متداخل الأجزاء . لقد أصبحت الأشياء بتبادلاتها تلك ، وديناميكيتها تمثل شبكة غنية حية ، حتى أننا صرنا نعرف اليوم ما يسمى بالنص الشبكى ، أو السيبر تكست “Cybertext” الذى يعتمد على الممارسات المفرّعة ، وحيث أشياء العالم تتبادل مواقعها باستمرار ، مثل الشخصين فى هذا النص : يتبادلان دورى من هو خارج الباب ، ومن هو داخله.
كتابة “أحمد يمانى” تجربة شعرية تضرب اليقين فى مقتل ، وتؤمن بتعدد الاحتمالات ، وترى أن أى شىء يمكن أن يحدث .. ويتلقى القارئ أحداثاً مفاجئة لا يمكن تصورها بشكل مسبق ، ويظل الشاعر فى أثناء ذلك يمارس ألعاباً مثيرة ، والباب – على سبيل المثال – فى هذا المقطع موضوع لعبة درامية مدهشة تشبه المشاهد المسرحية ، يلعبها شخصان يتقمص أحدهما دور الطارق على الباب بلا رد ، ويتقمص الآخر دور من يُطرق الباب عليه دون أن يهتم ، ثم يتبادل الشخصان موقعيهما ، وهكذا يتم المشهد الرمزى الذى مارسه ويمارسه عدد ضخم من البشر على امتداد التاريخ الآدمى . لا نستطيع أن ننسى أن كل أحداث الحياة تتطلب طرق الأبواب : يُطرق الباب ليخبرنا أحدهم بولادة المولود ، أو يخبرنا أحدهم بموت أحد الأقارب أو الأشخاص ، أو يخبرنا بشىء من أحداث الحياة اليومية التى لانهاية لها ، ولا لاستيلاداتها
وفى الأساطير القديمة يطرق الباب ملك الموت ليقطف الحياة ، وأحياناً نخرج من الباب ممتلئين بالرغبة فى مواجهة العالم ، وبالرغبة فى غزوه ، واقتناص مكاسبه ، وأحياناً نقف على الباب منكسرين نشعر بالهزيمة والضياع . وتظل لطرق الباب دلالات درامية غنية ، فالإنسان البدائى كان يطرق باب الكهف طالباً الحماية ، وتطلب الأديان من الناس أن يستأذنوا ويطرقوا الأبواب قبل دخول البيوت .. وفى البيوت الحديثة ، صنعوا كفاً نحاسية ثقيلة معلقة ، يطرق بها الضيف ، أو القادم من الخارج ، لينبه أهل البيت بحضوره ، وفى المجتمعات الأكثر حداثة وضعوا ضاغط الجرس الكهربى على أبواب الشقق، ووضعوا العين السحرية ، ويستطيع القادم الآن أن يجرى مكالمة قصيرة على باب العمارة ، وتردّ عليه سيدة البيت من المطبخ فى أثناء طهى الطعام . ويظل لطرق الباب دلالات غزيرة ، منها أن الباب هو الحد الفاصل ، بين عالم الداخل وعالم الخارج ، والانتقال من منطقة ندعى أننا نعرفها إلى منطقة مجهولة نريد أن نكتشفها ، وأن نطوّعها ، وأن نمتلكها ، ونظل نقارن بين الخسارة والمكسب ، بين الممكن وغير المتاح . ومن هذه الدلالات : انتظار المفاجآت غير المنتظرة ، أو الحلم بأشخاص يأتون ، أو أحداث تتحقق ، أو أشياء يمكن الحصول عليها ، أو استقبال خطابات بريدية ، ومنها أن الباب هو الستر والغطاء والأمان ، وفى البيوت التى بنيت فى العصور الماضية كان هناك مدخل منكسر خلف الباب يمنع المارين من التقاط أى مشهد من داخل البيت ، ويحكى “باشلار” طويلاً عن قيمة الباب ، ودوره فى طفولة كل إنسان . وأيضاً هناك حركة الباب المستمرة بين الغلق والفتح مما يشكل إيقاعاً أساسياً من إيقاعات الحياة ، مثل الشهيق والزفير .. وهكذا.
وعندما يتبادل الشخصان الطرق على الباب يكون الرجل والمرأة قد مارسا هذا السلوك ليتحول الباب إلى رمز فاصل، أو إلى أداة ، لأن الوجود حولهما ينبغى أن يجمع بينهما ، ويباعد بينهما بالتناوب لتكتمل طقوس الحياة ، وعندما تكتمل هذه الطقوس يكون الطرفان قد صنعا إنجازاً كبيراً ، يكونان قد مارسا تجربة كبيرة من تجارب الحياة ، أو يكونان قد خاضا بحراً عميقاً ، لايزال الآخرون يقفون بساحله البعيد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة مسرحنا 03-02-2014