عبد الحكم سليمان
هذا هو الديوان الخامس للشاعر أحمد يماني، والديوان عبارة عن نصين فقط، النص الاول الذي شغل معظم الديوان عبارة عن خمسين مقطعا، وجاءت في نفس العدد من الصفحات تقريبا، أما النص الثاني “النائم الذي لم اره” فجاء في اثنتي عشرة صفحة بدون ترقيم لمقاطعه، ولنبدأ بهذا النص الاخير الذي هو عبارة عن مرثية في موت صديق غال ربما كان اسامة الديناصوري، كما يتضح من بعض الاشارات هنا وهناك مع ان يماني لم يصرح بذلك في شكل عنوان جانبي مثلا ابدا، علي كل حال خلا النص من كل مشاعر الفجيعة المتوقعة في مثل تلك الاغراض وذلك راجع لسبب وجيه، فلقد ركز النص فقط علي عالم الراحل كما يراه الشاعر، في مشاهد تراكمت كأنها بورتريه لشخص خاص اكثر من كونها مرثية، استخدمت فيها جميعا ضمير الغائب باستثناء مقطع رائع جاء بضمير المتكلم، عكس فيه الشاعر عمق علاقته بصديقه الراحل حتي انه كان يتواصل لليله مع كل امرأة عرفها بعيني ويدي صديقه.
نعود الي النص الاول “وراء الباب”، فأزعم انه نص جديد تماما علي عالم يماني الشعري، ليس من حيث طوله النسبي ولكن ايضا من حيث التقنية التي إتبعها يماني في بنائه، واظن ان هذه التقنية قد فتحت ارضا جديدة للشعر عند احمد يماني، فعلي مدار الخمسين مقطعا سوف تجد هنا تراكما من الانطباعات والتأملات والحدوس التي تكون معا نسقا كاملا له مجازه او دلالته الكلية المحددة، في الحقيقة يشبه الامر المعجزة ألا يتطرق الكاتب لمستوي تقديم تحليلاته او استنتاجاته او خلاصاته ويبقي مستوي تعاطيه مع الاشياء عند التأملات والانطباعات كما ذكرت، وهو ما يمكن اعتباره مستوي بدائيا، وفي نفس الوقت يضمن أن تكون كل تلك المقاطع نسقا واحدا كاملا قادرا علي نقل، ما لم يقل مباشرة، الا وهو حالة من الاحباط الكلي الناتج عن غياب القدرة علي التواصل مع الطرف الآخر، وذلك بسبب الوقوع تحت وطأة مخاوف وشكوك عطلت قدرة الاطراف علي الانفتاح التام والنهائي علي بعضها البعض، والتقبل الكامل للفشل باعتباره قدرا مدمجا في بنية العلاقات من الاساس، ومن ثم يكون الاقتراح الوحيد لتفادي مرارة الوحدة هو النسيان.
لقد كان يماني كريما وجريئا بالقدر الكافي الذي جعله يقدم العالم كما يحسه ويلمسه ويشمه ويراه.
وليس كما يدركه او يعرفه او يظنه، وفي الحقيقه فإن الأمر لا يخلو من مغامرة، فلقد جرت العادة ان تفضي مثل تلك الابنية الي عالم فضفاض هيولي، ومن ثم تعاق القدرة علي ضبط المجال الدلالي، علي الكاتب، فيما أظن، للنجاح في مغامرة كتلك أن يتمتع بقدر عال من الانسجام والاتساق الداخلي، وبطبيعة الحال، مهارة الانصات لغرائزه وحواسه ، اذ انه لا مجال هنا لأية ادعاءات او تذاك، حتي ينتج هذا التناغم بين كل تلك المقاطع، لكن، بكل تاكيد وتفاديا للتمادي في الانتشار الافقي، جاءت بعض المقاطع في مستويات اعلي قليلا من مستوي البناء التحتي هذا، بل ان المقطع رقم 3 كاد ان يشكل وحدة مستقلة، فبدا كأنه موازن تمثيليا كأنه يوازي للنص ككل، وليست مصادفة ان يحمل هذا المقطع الاشارة الوحيدة لوعي الشاعر بعمله “شخصا يرص الكلمات بجانب بعضها في الليل ويبكي”.
علي ذكر موضوع التنوع والاستقلال النسبي هذا، فالاضافة للمقطع الذي سبقت الاشاره اليه حالا، نلاحظ ان هناك بعض المقاطع قد تصدت لما يمكن ان نسميه اغراضا ثانوية داخل السياق العام، هناك مقاطع عكست حيرة الشاعر أمام صدع يراه ينمو علي مهل ولا يملك له صدا، كذلك المقطع رقم 23 بيكيتي الطابع الذي تمني فيه تحول الواقع الي ذكري، بكل تأكيد ستلاحظ ان لدي العديد من تلك المقاطع القدرة علي الحياة المنفصلة خارج هذا النص، بدون ان يعني ذلك ابدا خروجها عن السياق العام هنا، وهذا صحيح حيث إن تلك المقاطع لم تخل من اكتمال جمالي خاص بها، حتي لا اطيل بدون طائل، تشبه تلك المقاطع الفصول في بناء الرواية، بل ان تتابعها بالاضافة الي تنوعها قد اعطي احساسا خاطئا بسردية روائية الطابع، ولكنه تنوع وتتابع لا يسعي لانشاء عالم كما هو الحال بالنسبه للرواية ولكن يسعي لوصف الطريقة التي يتعاطي بها وجداننا مع العالم، انه نطاق الشعر الخالص، ومثل كل فن خالص، لن يتركك سعيدا او حزينا او متفائلا او عابثا، فقط سيتركك اقرب الي ذاتك اذا كنت تقوي علي ذلك.
مرة اخري، بخصوص هذا النص، “وراء الباب”، كان مكان الكاتب من العالم، هو مكان خسارة عاشق كبير، عاشق لديه من خبرات الخسارة اكثر مما لديه من خبرات النجاح، اقصد انه كاد ان يتوقع ذلك الفشل ولهذا لن تجد هنا احساسا بالصدمة او الفجيعة او ما شابه ذلك من مشاعر، وهذا هو نفس ما كان عليه مكان الكاتب في النص الثاني “النائم الذي لم اره” كما كنت قد ذكرت سابقا، وربما كان هذ ا هو ما جمع بين هذين النصين المكونين لهذا العمل الرائع.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة أخبار الأدب 25-01-2014