مجموعة الشاعر المصري أحمد يماني «الوداع في مثلث صغير»: ألمٌ يتبدّد كما شمس ترسِل خيوطها للأزهار

أحمد يمانى.. شاعر التسعينات المتمـرّد يهجو «الغربة» ويغنى «الوداع»!
سبتمبر 8, 2024
الكتابة بوصفها هوية في ديوان “الوداع في مثلث صغير”
سبتمبر 8, 2024

المثنى الشيخ عطية

المجموعات الشعرية المميّزة إن لم نقل الخارقةُ، تقودك إلى ما تشاء هي لا أنت، ولكن باحترام مثلّث إحساسك بواقعك، ذاكرتك، وأحلامكَ؛ وتدفعكَ إلى طرح تساؤلاتٍ من مثل: من نحن في هذه الحياة، ماذا نكون، من نحن بعدها، ماذا سنكون، من نحن في هذه اللحظة، ماذا نكون الآن، ومن كنّا قبلها، وماذا سنكون بعدها؟ وما الذكرى التي نسترجع فيها حياةً مضتْ لنا ولأهلنا، لأصدقائنا وأحبابنا؛ والذكرى التي سنكونها في لحظات تأتي بخطوات الزمن التي ستكون مشرقةً بالأمل مع أنفسنا والآخرين حين تدافعُ أجسادُنا عنّا، إن وقعنا في الافتراض الآخر عن ظُلْمتها طالما العمر يتقدم والآخرون ينهشوننا؟ وإذن، هل نحن ذكرى في السؤال أم ما نحن إلا ذكرى على نقاط فَلَك الزمن الذي يدور في جوابٍ يحتمل الخطأ والصواب وربما يحتمل كليهما أو يحتمل جواباً آخر؟
إن هذا مرعب حقاً لنا، وقد يقتلنا إن لم نذهب إلى يقين دين الجواب وننهي هذا التفكير، لكنّ نبع اليقين لا يروينا في النهاية أيضاً، ويعذّبنا أكثر حين يخدعنا بتقديم صورةٍ ثابتة نكتشف أنها متغيرةٌ، وأننا وقعنا في فخ الارتياح من مرايا واحتمالات ما نحن في التغير بلحظات الزمن الثلاث: الآن، الماضي قبله، والبَعدُ بعده، التي تُعلّقنا كما مثلّث يقودنا إلى عيش التساؤلات في الواقع، أو فيما نفترض من احتمالات نسمّيها الواقع الافتراضي، في قطعة لحظتنا على فَلَك الزمن، أو في الشِّعر الذي نعيش مرايا ما يكشفُ لنا، ومن بينها مرآة الشاعر المصري أحمد يماني في مجموعته التي تمتدّ لغتها ومعانيها أطول وأعمق وأكثر رهبة من الأسئلة البسيطة التي نعيشها معه في قراءتنا. وتتمحور، كما يكشف عنوانها «الوداع في مثلّث صغير»، حول الوداع الصغير لأنفسنا ولما يحيط بنا من أصدقاء وأحباء، والوداع الكبير الذي يتناول حالة وجودنا، والأسئلة التي فكرنا فيها بإيحائها القاسي، الرحيم في ابتكار راحة ومتعة الشعر الذي نعرف أنه لن يخدعَنا، مانحاً إيّانا متعة التساؤل كما يفعل العِلْم الذي يأبى أن يمتلكَ يقيناً، ومرشداً لنا في الهجس بما يتبلور في العالم من حركاتٍ كامنةٍ في خارجه وداخله بآنٍ. ولكن: ما هو الشعر أصلاً، وعن أي شعرٍ نتحدث، وهل هو ما نهجس به في خضمّ ما نعيش من فهمٍ للعالم بظلّ ما تكشفه لنا فيزياء الكوانتم، وما يدفع أصابعنا للنقر على أزرار تكنولوجيا الحواسيب والهواتف أو لمس شاشاتها، ولا نعرف بعدها إن كانت أصابعنا ستحرّك عوالم الواقع والافتراض والاحتمالات في فضاء الهولوغرام؟ هل هي حركةُ شعرٍ تتبلور فيما هجس به محمود درويش وفتح به ألف باب وباب للشعراء بضربة قصيدته «لاعب النرد»، ونراها تتوزّع قبل أن تتلملمَ في مجموعاتِ الشعراء المعاصرين، كما في هذه المجموعة التي تدفع القارئ للتفكير والتساؤل، مع إمتاعه، وعونه على تحمّل الفقد، بما تفتح من عوالم مغايرة لما عاش واعتقد ربما؟
«وكيف تكون الوحدة؟/ أن أراقب كل شيء دون تورط/ وأن أشعر أحيانا أن هيكلي العظمي كان يمكن أن يكون/ بطريقة أخرى/ وأحيانا أتساءل عن فائدة المشي وفائدة الجلوس/ في تلك الليالي التي تتركني خارج الكوكب الأرضي/ والتي رأيت فيها عددا من الألوان التي بقيت دون تسمية في/ ذلك الكون الذي رأيت نفسي فيه منقسماً إلى أجساد أخرى/ غير إنسانية، أجسادٍ كانت في طريقها للتكون يوما ما لكن شيئا/ ما أعادها دون اكتمال. لسنوات طويلة كنت أنا تلك الأجساد/ الناقصة المعلقة في الفراغ، كنت شيئا آخر غير الأيدي والأقدام،/ كنت ما كنته من نسيان الطبيعة».
«الوداع في مثلث صغير» مجموعة صغيرة وكبيرة في ذات الوقت، بقصائد لا تضمّها بنيةٌ، حيث تتوالى ببساطةٍ، 89 قصيدةَ نثرٍ، طويلةً كما قصيدة «الوداع» الهائلة بثلاث عشرة صفحة تتسع الحياة والموت، وقصيرةً بطول أسطرٍ لكنّها تدور في بنية هولوغرامية بذات الوقت، وتتمحور حول كلمة «الألم»، الذي يخلقه الفقد في غالبيتها. وتتوزّع في جميع الاتجاهات كما خطوط شمسٍ، لتوزِّع وتبدِّد الألم، وتلتقي مع رغائب القارئ بإكمال ما يعيش من تكنولوجيا وعوالم يفتحها له العلم، وبتغذية روحه التوّاقة إلى إشباع تساؤلاته حول الحياة والموت، الوجود والعدم وما بينهما، من عوالم تفتحها هذه الكلمة السحرية الرمادية الجديدة «بينهما»، مذيبةً عوالم الأسود والأبيض، كما كلمة سرّ سمسمية تُدخلنا كهفَ علي بابا، لالتقاط كنوز الكلمات.
في وداعه الهندسي الهولوغرامي، يكشفُ ولا يكشف لنا يماني أبعاد تجربته التي علينا نحن اكتشافها: بعيشها الذي يتيحه لنا كرمها ويريحنا من همّ القَسر، وبتجريد أنفسنا من الحكم، ونحن في الحقيقة مستعدّون لهذا في عصرنا الذي يمكّن موسى من رؤية ربّه لا سماع صوته فحسب، وفي هذا يتكشف لنا ما يتيسّر من أبعاد «الوداع» الفنية:
ــ المشهديّة التي لا تقتصر على قصائد القطعة، بل تمسح قصائد السطر الطويلة والقصيرة كذلك، ويتمّ سردها وتصويرها كحكاياتٍ شعرية تتطلب وجود البطل والاسترسال قليلاً في لحظته التي يتمكّن يماني من عرضها لنا بأبعاد ثلاثة، مُدخِلاً رؤيته فيها حول الزمن، التغيّر، والتحول، مستعيناً بتفاصيل المكان التي تمسّ إحساسنا، من جدران وسرير وسقف وطاولات، وحركات أيدي ونظرات عيون وخطو أقدام. في الداخل كما في الخارج الذي ترتسم فيه تفاصيل الحدائق والجبال والشواطئ، وحتى النبتة في أصيص وفي كأس ماء، وما يتم في المكان من موت للحياة فجأة أو بالتدريج، وما يتم من ولادات بأجسام كاملة كما يحدث في الحياة، أو مقطَّعة تنتمي ولا تنتمي لأجسادها بعد الحياة، في احتمال يبنيه تفكير الشاعر، وفق أحدث تصورات العلم عما يحدث، من غير يقين.
ــ التساؤلات المتداخلة بنصّ الشاعر المشهدي، والعودة إلى السّرد، أو الإجابة التي تقيم ما يشبهُ حواراً تتكشف فيه رؤية الشاعر باحتمالات وأسئلةٍ تتجنب يقين الأجوبة. والأسئلة التي تنتظم كامل القصيدة مثل: «أسئلة إلى الشعر» تحتمل الكثير من معانيه المشابهة لحياة غاودي المصمّم القرين لمدينة برشلونة، وعمله الهائل «العائلة المقدسة»، الذي لا يريد أن يكتمل، كما قصيدة نثرٍ مفتوحةٍ على سماء الداخل:
« هل أنت كائنٌ حيٌّ؟ هل نعرفك وأنت تمضي في الشارع كما تمضي حشرة صغيرة تدور دورات حول نفسها وتُصدِر صوتاً يصمّ الآذان؟ هل أنت الذي كتبه المعلمون الكبار وناموا في قبورٍ ضيّقة؟ أم أنك أنت الصغير الذي يعدو بخطوات متعرّجة في حديقةٍ عامّة ويلمحُه خلسةً الذاهبون إلى العمل وإلى الموت؟
هل أنت الذي ذهب إلى كائن يكتب منذ خمسين عاماً أو مائتين أو أوّل أمس؟ هل توزّع عطاياك الصغيرة على الجميع حتى ينام الجميع هانئين؟ وإذا ما ناموا فهل سوف يصحون؟ هل أنت الذي يشرُدُ في الحقول الواسعة ويكتشفه طالب أدب في سنته الأولى؟ أم أنك ذلك الوحش الذي ينتظره شيخ مسن على باب الدار التي أفنى حياته من أجل امتلاكها هي وليس من أجلك أنت؟ هل تعقد معاهدات مع الأرواح الطيبة والشريرة وما بين بين؟ أم أنك ذلك الصانع الذي ينام فوق عمله غير المكتمل أبداً لكنه خارقٌ ككنيسة الأسرة المقدسة التي مات أنتونيو جاودي دون أن تكتمل؟».
ــ التقاط اللحظات والوجوه والأشياء بعين النظر والحواس التي تشمل ما أوشكَ على الانقراض بنشوء المدنيّة، أو لم يُكتشف أو يتمّ تفعيله منها داخل الإنسان، وبناء قصيدة بأبعادٍ من تفصيلةٍ صغيرة لا تراها غير الأعين المزوّدة بملاقط الروح؛ وتصوير الهائل بالبسيط، مثلما يفعل كمثال في قصيدة «الضوء المطفأ بحجر»: «بقطعة صغيرة ملقاة عرضاً في الفضاء ينتهي/ كل شيء،/ ينتهي الليل وينفضّ النهار/ بين كل طريقين معلّق أعلاهما حجرٌ غير مرئيّ يُطفِئ الحياة/ بطريقته/ في دائرةٍ تسع قدمين واقفتين تنهال الحجارة حتى تسقط/ القدمان،/ المشهد الدامي لأقرانٍ يذبحون أخاهم./ الضوء المطفأ بحجرٍ».
ــ تخليل الجوهر المختفي بثياب الظاهر في جسد القصيدة، بما يثير المتعة في اكتشافه، ويمنح القصيدة عمقَ الرؤية التي يحملها الشاعر عن الحياة والموت، مثلما يفعل يماني في قصيدة «نوافذ البيوت»، وإيصال أبعاد التخفي إلى عنوان القصيدة كذلك، مثلما يفعل في «محاورات»، التي يشي عنوانها بالحياة.
ــ السخرية الهادئة، ومحورة القصائد حول الألم والفقد والموت، بما يبدد الألم مثل شمس تشرق من نقطةً وترسل دفء خيوطها إلى الأزهار، لتُفْقِد الفقد قسوةَ سلاحه، ولتجعل الموت متقبلاً، والحياة الجميلة بعداً يعاش ويمكن خلقه، بقليل من خسارات الاستيقاظ من الحلم.
ــ والعديد العديد من الإيجابية تجاه الحياة والبيئة، بطريقة الشاعر نفسها في ابتكار مجازه الخاص، والحب الذي يتسع الأرض الهائلة بتفصيل محبوبتها الصغيرة، «الكاملة في الحبْل»، ويكونُها:
«أنت لا تأتين من مكانٍ
أنت تندلقين مرة واحدةً كماء يسقط من الأعالي.
وأنت الغيمة التي تحمل الماء،
والماءُ الذي يحمل الأرض ويصعد بها من جديد إلى الغيمة،
وأنت الأرض التي تصعد وتهبط،
وأنت المنطقة العالقة بين الماء والتراب

……………
أحمد يماني: «الوداع في مثلث صغير»
المتوسط، ميلانو 2020
151صفحة.