ديوان «الوداع في مثلث صغير»: تساؤلات لا نهائية ويقين يحمل تساؤلات

“الوداع في مثلّث صغير” لأحمد يماني: غناءٌ حقيقيٌّ يتسرّب من الأُقصوصة
سبتمبر 8, 2024
الانطلاق إلى مثلث صغير
سبتمبر 8, 2024

د. مصطفى نور الدين

 كان من الضروري معاودة قراءة «الوداع في مثلث صغير» مرات للاستمتاع باللغة وعمق الفكر والتأمل. من الصعب على قارىء غير متخصص الإلمام بقضايا الشعر المعاصر ويدعي بما لا يعرفه. هنا قراءة شخصية لبعض القصائد وما أثارتها لدي من فكر، هو ما بين التحليل والتأويل.

من الكلمات الأولى في الديوان نتحسس الطريق وصعوبته، فبرغم لغة جديدة امتلكها الشاعر ويعبر عبرها فإنه يواصل التعبير أيضا بلغته الأم. فهو يعي التحول الذي حافظ فيه على وحدة.

«من المؤكد أنني أخرجت من داخلي كائنا آخر

كان يتشكل طوال أعوام انتباهي وبعدمه.

أنا الآن أب لنفس جديدة وابن لأب قديم».

التوصل بقناعة للوعي بالذات وماهيتها مرت بالبحث عنها دون الشك في التوصل إلي كنهها. أي أنه ربما تم تجاوز مرحلة معاناة الشك بالقناعة بعدم جدوى البحث لعدم جدواه مثلما هو الحال مع «مونتاني» الذي شعر بأن كل لحظة يحاول فيها الإمساك «بذاته الآن» تهرب منه ؛ إذ كل حاضر يمر لحظيا ليصبح مستقبلا. ومن أبيات الشاعر تضعنا في صورة مختلفة نسبيا فالتحول «كان يتشكل طوال أعوام انتباهي وبعدمه». فالبحث عن الذات به قصدية اختلطت «بلاوعي» فانتجت شخصا جديدا ولكن لم يفقد ما كان ، بعدما أصبح : «فهو آخر» ، و«هو هو». تحول إذاً ؛ يجمع التعدد بمعنى آخر نلمسه في مخيلته التي تجسده لاعبا لدور مشاركا حياة آخرين، هو الذي تصل إلى أذنيه عبر الهاتف أحاديث وخطوات مسنين ترعاهما صديقته:

«….. وأتقدم أكثر في البيت حتى أنني على وشك إعطاء المرأة أقراصها ومحاورة الرجل القارئ وطلب يد صديقتي.»

هذا الشعور الذي يعبر خيال الشاعر يترجم حالة نفسية يتقاسم فيها المشاعر مع الغير ويستمتع بتحققها ويضع لها لمسات التنفيذ، بخلق عالم افتراضي يشعر معه بالرضا بتبدل الأدوار وقلبها كلية بكتابتها من جديد لتبين درجة التحول التي حدثت في تجسيد «عالم افترضي» مأمول يتكامل فيه وبحياة فاعلة. هذا العالم هو أمل بتحقق لحلم. حلم صادق إذ حضر كفكرة بتشكيل حياة تنتفي فيها الوحدة أو العزلة وتنعم بصخب الحياة كتجسيد لوجود. الجميل هنا هو فعل المشهد، الذي ينتقل عبر الصوت بالهاتف، على تحول في الشعور الداخلي ليظهر البعد الغائب للوجود والذي يتحقق نفيه بالالتحام مع الآخرين، لو حدث. الشاعر يتوحد في مشهد مزدوج : ناظرا، عبر الصوت، وشاهدا على نفسه، مشاركا في المشهد بالخيال.

يتكرر هذا الحلم في قصائد أخرى ليمثل لدي الشاعر «حالة توق داخلية».. ففي قصيدة «نوافذ البيوت»:

«لي بيت أضيء نوافذه

ويمكن للجميع أن يلمح اضواءه من الخارج

وأنا عائد من العمل

وألمح كل النوافذ المضاءة

والتي وددت أن أكون داخلها جميعا».

 تعكس الكلمات حالة أسى مضمر؛ نداء خفي للنوافذ الأخرى أن تشاركه ما يوده، من جانبها. ومشاركة الآخر وجوده تتجاوز لدى الشاعر البشر. فالنباتات أيضا هم يشغله وبتواضع في الدور الذي يلعبه فهو يمنح الطبيعة حقها في منح الحياة وما دوره إلا عبر فعل بسيط هو في الواقع مشاركة في الخلق. قصيدة «قبل نهاية الحياة» تعكس بكلماتها القليلة تلك الفكرة العميقة التي تعيد تأكيد ذات الفكرة السابقة:

«بيدي نبته

فرعان صغيران بساق وأوراق،

أضع فرعا في الماء،

وفرعا في التربة وأرى الحياة جديرة بالعيش.

النبتة الممتنة على طريقتها

تنمو في الماء وفي التراب بعيدا عني،

بعيدا عن يدي التي كانت يوما،

دون إدعاء كبير،

هي الوصلة الحقيقية بين أجزاء الحياة».

 العديد من قصائد «الوداع في مثلث صغير» تنحو في اتجاه «القصيدة – الحدوتة» أو «القصيدة – الحكاية» وكذا القصيدة – الفلسفية» ومعظم القصائد في أشكالها هي حديث للذات «بصوت مكتوب» لترجمة فكرة متعددة المغزى، غير أنها جميعا ترسم صورة للشاعر مع نفسه وفي تفاعله مع العالم الخارجي الحاضر منه أو الغائب. فالوعي بالذات متصل بالوعي بالعالم سواء كان عالم الكائنات أو العالم في صورته العامة متمثلة في الأشياء في أدنى شكل لها. ولعل تجسد هذا بشكل غاية في الرقة تخص ذكرى الأصدقاء الذين غادروا العالم المحسوس ولكن وجودهم ظل قويا عبر شيء من ممتلكاتهم ظلت في حوزته أو حتى عبر المرور في طريق ونداء صوت ما يذكر بهم. في قصيدة «احتضار» يوحد الطريق وصوت العصافير لحظة موت صديق وقوتها تلوح وكأنها تذكير بموت آت للشاعر في لحظة مماثلة في ذات المكان وفي سماع الموسيقى ذاتها… أي لحظة لقاء مستمرة. فللموت وجوده ولا ينهيه فقدان رؤية الآخر.

«كنت أمشي في هذا الطريق قبل أن يموت صديقي.

ربما مشيت أيضا في هذا الطريق بعد أن مات صديقي.

لكن بينما كنت أتمشى ذات مساء في هذا الطريق

بلا شمس وبعصافير كثيرة ذاهبة لتنام،

في تلك اللحظات تحديدا

كان صديقي يسمع العصافير ويحتضر».

 وفي قصيدة «بالوما» نلمس الوفاء الدائم لصديقة ماتت دون أن يكون بينهما إلا صداقة غير حسية وخاطفة غير أنها ظلت وتدوم عبر أثر من أثارها الشخصية. نحن بين ما أسماه البعض بالحب العذري وغيرهم بالحب الأفلاطوني .. غير أننا نلمس أن هذا الحب يتجاوز أي منهما وإن جمعهما ففيه شجن الفقد.. ما أقسى الخجل حينما يحول دون لقاء.

«عزيزتي بالوما،

 اسمك في الأسبانية يعني حمامة.

ما أن أضع يدي على زر الكهرباء عندما أعود ليلا

حتى يتحرك جهاز الموسيقى،

جهازك نفسه الذي أهداني إياه عقب وفاتك صديقي الشاعر أجوستين زوج أختك.

كم مرة رأيتك؟ ثلاث مرات على الأكثر.

دخنّا مرة على باب البار ولم نتبادل النظر في العينين

كنا أكثر خجلا من أن نفعلها.

لكن معك كحمامة حقيقية كانت الحياة حقيقية على باب البار

نحافتك الظاهرة جعلت من جسدك حبلا نحيلا

يربطك إلى هذه الأرض

لكنه كان كافيا لتثبيتك ولو قليلا إلى هذه الحياة.

 الآن كل ليلة أضغط الزر

وتبدأ صورتك في التجول في البيت.

من كان يظن أن لقاءات سريعة كتلك

ستجعل منك امرأة حية في بيتي الصغير

حتى لو كانت امرأة تحت الأرض

حتى ولو كانت حمامة ميتة».