عباس بيضون
“الوداع في مثلّث صغير”، ديوان الشاعر المصري أحمد يماني (صدر في طبعتين، عن “ميريت” و”المتوسّط”، 2021)، لا يحوي شعراً فحسب، بل يحوي بالدرجة نفسها قصيدةً. النصوص التي يتشكّل منها الديوان، يستقلّ الواحد منها بنفسه؛ إنها، من البداية حتى الخاتمة، تبني شكلاً خاصّاً بها، يتكوّن من وقوع السطر على السطر، ومن تسلسل وانعطافات وتراكب، وما يشبه أن يكون موضوعاً ومساراً ووقفات وتكاوين.
أي أن للقصيدة دوماً قواماً، ولها دوماً نظرتها ورسالتها. الأسطر، لا أعرف إذا كان مستحسناً أن نقول الأبيات، تتسلسل من بعضها بعضاً، مشكّلةً في النهاية ما يمكن أن يبدو نثرة، أو لمحة، أو بالأخصّ أُقصوصة. قد نجدها أثناء ذلك تعرّج على ما يشبه أن يكون من المبتذل والعادي، ما يكاد يستقي من اليوميات، ما يجمع اللقطة والمفارقة والملاحظة العينية والفكرية، والتعليق، والتعقيب، والاستنتاج، والخلاصة، والعبرة، وما يزاوج بين التأمّل، والجوّانية، والحوار والسجال، والمجرّد والحسّي. يتراءى لنا لذلك أن القصيدة الواحدة هي هذا المزيج من الخارج والداخل، من الواعي واللاواعي، من الهذيان والصحو، من الغياب والحضور، من التذكّر والملاحظة، والمباشر وغير المباشر، وما هو مقابل ذلك كلّه، من بناء وتشكيل وتأمّل واختراع وتفكير. قصيدة يماني، لذلك، هي نوع من ابتكار واقع مقابل، واقع آخر يخرج من عناصر شتّى، قد تكون ملابسة القريب والبعيد، وقد تكون الأسئلة الكبرى والأوقات العاصفة، وقد تكون من نسيج الأفكار، والأطروحات البعيدة.
أي أن ما يفعله يماني، بوعي وبغير وعي، بقصد وغير قصد، هو ما يجعل القصيدة على حافّتين في آن معاً، حافّة الغرابة التي تبدو وكأنها من مادّة، أو أنّ لها مادة، وحافة الوعي الذي يكاد يطير، ويغدو تجريداً وتوهُّماً وسحرية. أي أن هذه القصيدة هي القدرة على استحضار مراجع متفاوتة، ومزاوجتها، بحيث تبدو سياقاً لا يمتّ إلى شيء، في الوقت الذي هو فيه كلّ ذلك جميعاً.
إذا تأمّلنا في قصيدة اليماني يتراءى لنا أن هذا الشعر، للسبب عينه، يدّعي النثر، بل يتواضع ليكون النثر. ما يجعله ينطلق، ممّا يبدو لأول وهلة أُقصوصةً. بعض القصائد هي، إلى حد ما، هذه الأُقصوصة. أي أن لها من عناصر الأُقصوصة، ما يكاد يبدو استحضاراً لها. هناك المكان والزمان، وهناك الخبر، وهناك الحبكة، وهناك السياق، وهناك التفاصيل. أي أن القصيدة تجترح لنفسها ما يمكن أن يكون هيئة قصصية.
لكنّ القراءة لا تقف هنا. لا بد أن هذه الهيئة لن تفوتنا. سيتراءى لنا أن هذا الشكل متعمَّد، وأنه مجرّد مسار ليحوي ما هو غيره. إنها أُقصوصة، وليست أُقصوصة. أُقصوصة لاستحضار أغراض وعناصر أُخرى. نبدأ من البيت الموعز للأُقصوصة، لكنّنا أثناء متابعتنا، نشعر أننا نقع على غير ذلك. نشعر أن ما اعتبرناها أُقصوصة، ليست سوى وعاء. أن له ما للسرد، ونحن نقرأه بمتعة ما، ثمة ما يعود لنا من السرد. إنه سرد لكنّه شاء أن يكون كذلك، وهو به يتواضع للسرد. يبدو سرداً ليصحّ له أن يحمل ما يشاء، ويستحضر ما يشاء تحت هذه الهيئة. نقرأ، فإذا بنا ننعطف بما يتعلّق بالبيت الأول، وما يبني عليه، بدون أن يكونه. نجد أنفسنا نقع على أفكار، لكنّها ليست مجرّد أفكار، لنقُلْ إنها أفكارٌ – صوَرٌ.
لنقُلْ إن الشعر بجناحيه هنا، الفكرة والصورة. نقع على فانتازيات وغرائب وتعليقات، لكنّنا نقع أيضاً على دمغة الشعر، على الشعر وهو يخرج، مما يبدو في السياق نثراً بحتاً. نجد شعراً دامغاً في هيئة نثرية، كأن الشعر هنا يتواضع للنثر، لكنه حين ذلك قد يبدو ساطعاً أكثر، قد يبدو شعراً بلا منازع. نقرأ ما يبدو أُقصوصة إلى آخره، ليتراءى لنا أن الأُقصوصة هذه، أن النص بكامله، صورةٌ كبيرة. نفهم عندئذ أن الأُقصوصة هنا مشبهة بالأُقصوصة، أن النثر مشبه بالنثر. أن الشعر يخرج من زواج كبير، الفكرة والصورة، لكنّه في تظاهره القصصي يحفظ لنفسه سطوعاً أكبر. إنه يبدو شعراً، بمقدار ما يدّعي غير ذلك، أو يتواضع لغير ذلك. إنه ليس شعراً فحسب، بل إن من الأُقصوصة يتسرّب غناءٌ حقيقيّ.