“الوداع في مثلث” لأحمد يماني… سهم يصيب الفريسة والجلاد

أحمد يماني… الوداع كخطوة عرجاء
سبتمبر 8, 2024
أحمد يمانى.. شاعر التسعينات المتمـرّد يهجو «الغربة» ويغنى «الوداع»!
سبتمبر 8, 2024

ميسون شقير

يقول فرويد إن “مأساة الإنسان تكمن في حاجته إلى الشعر”، وهنا يأتي الشعر بصفته حارس صحراء اليأس وصبار الحزن فينا، لكنه أيضاً حارس شجرة الحلم، وسيد بذرة الدهشة التي تعيد انتاج أسئلة يعج بها هذا العالم، الأسئلة التي تلجأ إلى الشعر ليس لكي يغلقها بإجابات جافة، بل كي يرفع نبرتها المنخفضة، قليلاً.
المجموعة الشعرية “الوداع في مثلث صغير” للشاعر المصري المقيم في إسبانيا، أحمد يماني، تعيد لهذا الكائن الخرافي المسمى الشعر الكثير من الأجنحة، وأيضاً الكثير من المخالب ومن الأشواك، وكأنها تعمر بالخراب المعشش فينا، حياة كاملة من أنفاس ووهج وغبار. شيء من المرارة العميقة ينبع من داخلك عندما تنهيها، وشيء من اللذة يسري كنهر بين أصابعك يأتي بعد المرارة مباشرة كأنك تكتشف العالم للتو، أو كأنك لا تريد أبداً أن تكتشفه، ورشة داخلية معمرة بالتناقضات وبالتفاصيل اليومية البسيطة التي تؤسس لحالة في غاية العمومية والخصوصية معاً وفي غاية العمق لكنها تطفو على السطح كجثة.

يقول يماني: “في ذلك الكون الذي رأيتُ نفسي فيه مُنقسماً إلى أجساد أخرى غير إنسانية
أجسادٍ كانتْ في طريقها للتكوُّن يوماً ما لكنّ شيئاً ما أعادها دون اكتمال.
لسنوات طويلة كنت أنا تلك الأجسادَ الناقصة المعلّقة في الفراغ
كنتُ شيئاً آخرَ غير الأيدي والأقدام، كنتُ ما كنتُه من نِسيان الطبيعة“.

وبما أن الشعر بحد ذاته هو تزاوج الوعي باللاوعي، على رأي جان كوكتو. وهو حالة الصراع مع أنفسنا التي لا تتوقف والتي تعيد نفسها كلما خبت، فيمكننا إذا أن نقول إن هذه المجموعة التي تبني قصائدها على المحورين الثقافي والنفسي، وتراهن على رأسمال من الرموز اليومية الفردية والجماعية لعالم معقد متصارع مع ذاته، ومع الشاعر في حركة طاعنة التأرحج بين الاستسلام والرفض، تفتح في القارئ أسئلة الإنسان المعاصر حول العزلة التي بنتها فيه غربته عن ذاته، قبل أن ترممها غربته عن عالمه الأصلي، العزلة التي زرعتها وسائل التواصل الحديثة فينا كشجرة سرو تحرس باب المقبرة.

يقول يماني: “كيف تكون الوحدة؟
أن أراقب كل شيء دون تورط
وأن أشعر أحياناً أن هيكلي العظمي،
كان يمكن أن يكون بطريقة أخرى”.

ما بين الواقعية والواقعية السريالية تتوزع قصائد المجموعة بشكل ينضح بالقلق الوجودي وبصرخات الجسد المنهك من فعل رحلة طويلة لم يكن يماني فيها مسافرا، كان فقط يترك للطريق أن تقود روحه، حيث لا وجهة للشاعر إلا الريح:

“في كل خطوة
كنت أنزع طبقة من جلدي
وكان القدر ينزلق خفيفاً على أبواب البيوت
وعلى الحوائط
في خيالات مستقرة
معروفة للجميع”.

وفي المجموعة تتوضح علاقة الشاعر الثقافية مع الأداب العالمية وخاصة من الشعر المكتوب بالاسبانية التي تقنها الشاعر، والتي ترجم عددا من المجموعات الشعرية عنها إلى العربية لعدد من الشعراء الهامين المعاصرين، مثل الشاعر المكسيكي خوسيه إيمليو باتشيكو (1939 ــ 2014) والاسباني أغستوين وشعراء أقدم مثل الشاعر البيروفي ثيسار باييخو (1892 ــ 1938 ، إن لغة وفلسفة هؤلاء التي تعتمد على تبني حالة السؤال التي يجب أن يتركها النص في روح متلقيه طازجا وحادا وغير قابل للهروب، وهكذا جاءت الوداع في مثلث صغير كي تشعل فينا السؤال عن كل ما نعيش، عن الحب، وفقده، عن الجسد وسخريته، عن الغربة، عن الحنين، عن الضياع والانتماء، عن الأنثى وعما ضاع منا من أسئلة على الطريق حين كنا مشغولين فقط بالوصول.
وبضمير المتكلم الذي يصل إلى العالمية من خلال شدة الحالة الشخصية التي يقولها ومن خلال حقيقتها وضبابتها، وتناقضاتها، بهذا الضمير القابل للتفرد والجمع، والقادر على محاكة الذات والكون يكتب يماني:

“كل انهيار جديد لجسدي أكافئه بملابس جديدة
مع السقوط الجماعي للشَّعر أشتري جاكت
مع ابيضاض الحاجبين حذاءً طويلاً
مع تجاعيد الجبهة بنطلوناً
ولانحناءة الكتف كوفية صوفية
لستُ متأسياً على الفقد ولا فرحاً بالاكتساب
فقط أضع لكل مقامٍ غطاءً”.

ولعل أجمل وأوجع وأعمق قصيدة في المجموعة هي قصيدة الوداع في نهايتها، هي نهايتة اللا نهاية، هي وداعنا لذواتنا في كل وداع، هي نحن وقد انقسما لأجزاء أخرى، أجزاء تزحف خلفنا ولا نعد أبدا كما كنا قبل تلك اللحظة، فكلما هدهدنا لهذه اللحظة أن تنام نستيقظ مذعورين.

“كان الوداع قبلة
قبلتين
عشرات القبلات
لكنه كان عناقاً
كان تشبّثاً ورفضاً
كان قطع اللحم الصغيرة المتناثرة بعد انتهاء العناق
الوداع كان عتبة بيت ومحطة قطار
كان طائرة تقلع عمودياً وتختفي
كان السحاب الذي تشقّه الطائرة وكان الطيور
وكان توقّفاً عن كلّ حركة
كان إصبعاً مكسورة
يداً دون أصابع
وجسداً لم يوجد إلا ليختفي
كان الوداع سقفَ بيت بحوائط قصيرة
لا تزال تهبط حتى تصل إلى الأرض
كان وداعاً للنفس الذاهبة إلى العظام البيضاء
وداعا للجسد الملتهب/ كان الوداع وداعاً لنفسه
وكان وداعاً”.

وبما أنه “لا فكاك عن اليوتوبيا، فهي حقيقة الغد”، على حد قول فيكتور هيغو، فأن “الوادع في مثلث صغير” تحاكي الشعر كعادة أحمد يماني، بكل الأجنحة والأشواك، وتحاول، بكل بوعيها لكل هذا الخراب، أن تعيدنا إلى نفسنا سالمين، تعبرنا كسهم قتيل، سهم يصيب الفريسة والصياد.
وعلى الرغم من الدهشة والمرارة ولذة الاكتشاف والنسيان، التي تملأ قصائد المجموعة، إلا أن القليل منها لم ينجُ من ورطة السرد السريالي أحيانا والشديد الواقعية في أحيان أخرى، الذي فرغ من احساس الصدمة التي يقدمها الشعر، ومن تلك الرعشة الشعرية التي تصعقنا كسيف.