د. نجاة علي
يُنظر إلى الشاعر المصري أحمد يماني باعتباره واحدًا من أهم الأصوات الشعرية المتميزة في جيل التسعينيات، وقد صدر له مؤخرًا ديوان “الوداع في مثلث صغير” في طبعتين، الأولى عن دار ميريت والثانية عن دار المتوسط.
وعلى الرغم من محاولات التمويه التي استخدمها الشاعر في كلمات الإهداء لصديقه الشاعر والمترجم كاظم جهاد: “لا رغبة لديّ في سرد أهوال الرحلة”. فإن من يقرأ الديوان سوف يكتشف أن الشاعر لم يستطع الفكاك من أسر أهوال تلك الرحلة ولا من خسائرها الفادحة، ففعل العكس تمامًا، وسنرى أن قصائد هذا الديوان ما هي إلا سرد مكثف لمحن قاسية عاشها، ربما كان أبرزها: الفقد والوحدة والاغتراب. ويمكننا أن ننظر لهذه القصائد باعتبارها كتابة “ذات” بالمعنى الفلسفي في مواجهة عالم متوحش، تطرح علينا أسئلتها الوجودية الكبرى حول الحياة والموت.
ويلفت الانتباه تكرار مفردة “البيت” التي ترددتْ كثيرًا في الديوان، وتكاد تحتل حيزًا واضحًا في عناوين القصائد مثل: “أتقدم في البيت”، “رأى بيتا”،” بيت البحر”، “قرب البيت”، “نوافذ البيوت”، “معاملة البيت”. ونكتشف عبر القراءة أن البيت الذي تتحدث عنه القصائد ليس بيتًا حقيقيًّا بالمرة، بل مجازيًّا أو متخيلًا على الأرجح؛ فهو أشبه بعالم خاص أو كون صغير تحيا به الذات، يمكن التعامل معه باستعارة مركزية بالديوان، فمنه تبدأ أو تمر كل الأحداث، وهو أيضًا الشرفة التي تراقب منها الذات الشاعرة العالم، و تراقب ذاتها المنقسمة والمغتربة وتتأمل -في الوقت ذاته- عجز الآخرين، لكن بمسافة وبقدر من الحياد، ومن دون شبهة التورط في إدانة أحد على نحو قوله:
وكيف تكون الوحدة؟
أن أراقب كل شيء دون تورط
وأن أشعر أحيانًا أن هيكلي العظمي كان يمكن أن يكون بطريقة أخرى. (الديوان، ص 15)
تمارس الذات الشعرية، وعلى مدى قصائد الديوان، جدل التحديق، باعتبارها عينًا ومرآة، وترى نفسها في انعكاس صور الآخرين عليها، فالذات في الحقيقة -بحسب جاك لاكان- تتمتع بالقدرة على أن تجعل من نفسها ذاتًا أخرى، وأن تتوقف عن التفكير في آن الأخرى و تفكر مثلها(1).
إن كل أماكن لحظات عزلتنا الماضية، والأماكن التي عانينا فيها من الوحدة، أو تلك التي رغبنا فيها مع الوحدة فيها تظل راسخة في داخلنا، لأننا نرغب في أن نبقى كذلك، فالإنسان يعلم غريزيًّا بأن المكان المرتبط بوحدته مكان خلاق، يحدث هذا حين تختفي هذه الأماكن من الحاضر، وحين يعلم أن المستقبل لن يعيدها إليه ثانية.
لكن أليست الحياة ذاتها تتكون من تلك اللحظات الصغيرة من الشعور بالوحدة”؟! كما يقول رولان بارت في كتابه “الغرفة المضيئة”(2).
ففي قصيدة “أتقدم في البيت” على سبيل المثال، نرى الشاعر يشير إلى حالة العزلة التي يعانيها من خلال مشهد سينمائي، يبدو كما لو كان سردًا لحياة تغلفها الوحدة؛ “حيث الحياة كلها تختزل في أوقات تعيسة بين جدران البيت، لا شيء يقطعها سوى مكالمات مع صديقة ترعى زوجًا من العجائز، مكتفية الذات بتأمل حالة انكسار الروح وظلمة الليالي المتوالية، وبالتلصص من نوافذ البيت على حياة الآخرين:
أعيش ساعات في البيت بأذني وحدها.
دبيب الأقدام البطيء على الأرض
نسيان المرأة لكل شيء وهمهماتها
المزاج المتقلب لكن الهادئ للرجل
يأس صديقتي من نفسها ومن الحياة أحيانًا
وفجأة تصبح الساعات الثقيلة أخف ما يكون
حتى أنني أراها قليلة وأن عليَّ أن أطيل الحوار. (الديوان، ص 11)
يستخدم الشاعر هنا مونتاجًا من الكلمات لمونتاج من الصور؛ أي أن الكتابة صارت مونتاجًا، حيث يصير المشهد كله بمثابة استعارة كلية عن شيء أو معنى يريد الشاعر إيصاله لنا، فتصبح الاستعارة “أشبه بومضة ندرك المعنى في ضوئها. أو ليست الاستعارة نفسها استعارية ترائي بمعنى ما وتحتال سرًّا بإيصال معنى آخر”؟! كما يقول جاك دريدا(3).
البيت وأحلام اليقظة
“يرتبط حضور البيت في هذا الديوان بأحلام اليقظة، فحلم اليقظة يتعمق مثلًا إلى حد أن منطقة من التاريخ القديم جدًّا تتفتح أمام الحالم بالبيت. منطقة تتجاوز أقدم ذكريات الإنسانية(4). فاللاشعوري لا يعرف زمنًا، إذا استعرنا عبارة فرويد الشهيرة التي تعد من الأقوال الميتاسيكولوجية المعروفة، فمن المفترض أن اللاشعور أتى إلى الوجود في لحظة معينة من الزمن، وأنه يختفي في لحظة معينة من الزمن(5).
فالشعر هو بكل دقة تأثير ذلك الصراع المرير بين الوعي واللاوعي، وعليه أن يعمل مع المقاومة، ومع ما لا يمكن مقاومته أو الهرب منه، وأهمية أحلام اليقظة أنها تضيء ذلك الدمج بين القديم جدًّا وبين المستعاد من الذكريات. وهذه المنطقة التي تنفتح على تأريخ سحيق يرتبط فيها الخيال بالذاكرة، كل منهما يعمق الآخر. إذن هو “بيت مجازي” يسكن منطقة اللاوعي ويتخذ صورة “حلم يقظة”، حتى أن الحالم به لا يرى سواه وتتداخل معه كل الأماكن الأخرى والأحداث التي تثير الألم. كما نرى في قصيدة: “رأى بيتا” ثم في قصيدة “حلم”:
“كنت واقفا أمام باب البيت، كما يقف الناس دون هدف محدد، حينما رأيتك تتقدمين إلى البيت المجاور، مرتدية شورتًا يظهر منبت فخذيك، كنت تمضين سريعًا ولم تريني. فهمت من ملابسك أنك ذاهبة لعمل المساج لدى المركز المجاور. عندما رأيتك انفجر صدري. ظللت لأيام أخرى أترقب رؤيتك وأنا في الشرفة حتى رأيتك من جديد وكدت أسقط كاملًا في الشارع”. (الديوان، ص111)
إن ذكريات الأحلام التي نستطيع استعادتها بمساعدة التأمل الشعري- فقط- مختلفة وغير محددة بوضوح. ولعل وظيفة الشعر الكبرى هو أن يجعلنا نستعيد مواقف أحلامنا، فالبيت الذي ولدنا فيه هو أكثر من مجرد تجسيد للمأوى، هو تجسيد كذلك للأحلام، خاصة أحلام اليقظة (6).
وثمة مجموعة من الأشباح تنتظرنا في هذا البيت وتتناوب في الحضور، ولعل أشباح الموتى هي الأكثر ظهورا، منها: الأب، الأم، وعدد من الأصدقاء الراحلين. ويتكرر ظهور شبح الأب- على نحو خاص- في أكثر من موضع في الديوان، حتى إننا نشهد في إحدى القصائد تفاصيل طقوس تغسيله ودفنه باعتبارها ذكرى أليمة ظلت محفورة في اللا وعي، وتلح على الحضور كلما أمكن لها ذلك، مختلطة بمشاهد أخرى قاسية، حتى صارت الذكرى كابوسًا متكررا يؤرق صاحبه؛ فنحن لا نعاني من الأحياء فقط بل من الأموات أيضا؛ “فالميت يمسك بتلابيب الحي” على حد تعبير ماركس (7):
جسد أبي الميت يتحرك وفقا لحركة رجل لا أعرفه
يغسل جسده الذاهب إلى القبر
كانت دراجة أبي الكبيرة وراء الباب مباشرة
الباب مغلق بقفل وسلسلة تعلن عن نفسها عند
كل إغلاق
الباب الآخر مغلق،
أبواب الغرف موصدة
والدراجة الكبيرة سوف تجوب الآفاق في الصباح
الباکر
یقودها رجل شبه سعید
يخبط بقدميه فتسرع العجلتان
كمن يخوض في وحل بحذاء طويل
ويعقد اتفاقا مع الأبدية
في الصباح الباكر
(الديوان، ص15)
ولعل الشعراء المتصفين بوعي العالم يكتشفون الكون من خلال تلك اللعبة الجدلية بين الأنا وما ليس أنا، وهم بهذا يعرفون الكون قبل أن يعرفوا البيت، يعرفون الأفق البعيد قبل معرفة مكان راحتهم، على نحو ما نرى في قصيدة “قطيع”:
جئت لأشاهد شیئا،
لا أعرف من أين أتيت
لكنني جئت من مكان قريب،
ربما جئت من البيت،
لأجلس وأشاهد شيئا لا أتبينه
بملابس غير مناسبة،
كأنها صنعتْ في أزمنة أخرى.
(الديوان، ص73)
محنة الاغتراب والكتابة بوصفها هوية هناك توافق نسبي بين الباحثين على أن الهوية بناء اجتماعي، يتغير دائمًا، على نحو من الأنحاء، من حال إلى حال في إطار علاقة حوارية مع الآخر، بينما يعرّف إسحاق شيفا الهوية بأنها “القدرة التي يمتلكها كل فرد منّا على أن يظل واعيًا لاستمرار حياته عبر التغييرات وعبر الأزمات والقطيعات”(8).
يمكننا القول إن الهوية ليست شيئًا جوهريًّا ثابتًا، بل هي ما يتحقق بالزمان والمكان وفيهما. ولربما كانت أقسى المحن التي عانت منها الذات، والتي يطرحها علينا الديوان بقوة، هي محنة الاغتراب وقد ظهرت في مستويات متعددة، فهناك الاغتراب السيكولوجي من حيث هو انفصال عن الذات أو من حيث هو قطيعة مع أشكال التواصل كافة، وهو مبعث الشعور الطاغي بالوحدة التي تحدثتُ عنه.
وهناك الاغتراب المكاني أيضًا، وقد حدث نتيجة هجرة الذات من بلد إلى بلد أجنبي آخر، ويمكن النظر إليه باعتباره شكلا من أشكال “المنفي الاختياري”. هذا إلى جانب أن الكتابة ذاتها- أحيانا- “تكون مستحيلة من دون بعض من المنفى”، كما تقول جولیا کریستیفا.
هاجرتُ في الظهيرة
وأمطرت فوقي وأنا أحادث أبوي الضاحكين
إخفاء للآلم
من كابينة في الشارع قليل الإضاءة.
(الديوان، ص08)
ومن هنا أعود لاستعارة أو مجاز “البيت” الذي تحدثت عنه سابقا، والذي یلح علیه اللا وعي کثیرا في الحضور، حيث يصبح حلم العودة- بالنسبة لمن هو في وضعية المهاجر أو المنفي – شيئًا ملحًا – حتى لو تمت هذه العودة عبر المجاز، الذي هو ليس سوى لجوء إلى ((هوية)) تشكلت ملامحها وعلاقاتها في ذلك المكان البعيد من هنا في الوطن الكائن هناك.
والمجاز يصير هنا أشبه بالجسر الذي تعبره الذات في رحلتها للوصول إلى “بيت” أو (هوية) تخصها، ومن ثم يكون اللجوء أو الاتكاء على الذاكرة ضروريًا؛ فالمهاجر أو المنفي يصل فعل الكتابة بآليات عمل الذاكرة، فالذاكرة تقدم لنا ذلك الوهم المخادع. فما مضى لم يتناوله الفناء بصورة نهائية؛ لأن ثمة إمكانا لاستعادته بفضل الذكرى ويتعلم الإنسان بالعودة إلى الماضي أن يتحمل المدة الزمنية، إنه يجمع بقايا ما كان ليبني ما يكون صورة جديدة قد تساعدة في أن يواجه حياته الحالية، فالناس- لا شك- يموتون عندما يعجزون عن أن يصلوا البداية بالنهاية، فالمحافظة على الذات عبر الزمن تقتضي تحريم النسيان كما يخبرنا بول ریکورا9).
ولربما كان هذا النوع من الكتابة الشعرية ينتج عن «الانفصال بوصفه رغبة»، ویصبح بدیلا ومكانا للعيش عن وطن غائب، ويصل المكان بالهوية، والأرض بالثقافة والتاريخ واللغة بالوجود. وتتخلق لهذه الكتابة شعريتها من كونها صارت ((جغرافيا بديلة)) للذات [10]:
أحلم دائما بالعودة، أنني في بلد ولا بُدّ أن أرجع
إلی بلد ثان،
لكن أحداثًا غامضة تحدث في السماء دوما
كأن يكون هناك دخان يطير وحده
أو نباتات غريبة معلقة من جذورها،
أو شيء ما يجعل الباب نافذة لا تفتح ولا تغلق
وأنا في النهاية لا أعود أبدا
(الديوان- ص28)
ربما هذا كله يقودنا في النهاية لأن نتمكن من تأويل عنوان الديوان (الوداع في مثلث صغير)؛ بأن الذات التي راكمت طبقات من الألم والفقد عبر سنوات الهجرة ، لم تجد مكانًا وطريقًا متاحًا لوداع الأحبة والأصدقاء الذين فقدتهم سوى الكتابة أو الشعر، والذي تراه أشبه بـ((مثلث صغير))، ولعلها رأتْ في ذلك أيضًا صيغة للتعايش مع الألم أو وسيلة للمصالحة بين الحياة والموت:
لست متأسياً على الفقد
ولا فرحا بالاکتساب،
فقط أضع لكل مقام غطاء
(الدیوان، ص73)
…………………………….
الهوامش
[ ** ] صدرت للديوان طبعتان: الأولى عن دار نشر ميريت بالقاهرة، وهي الطبعة التي أعتمد عليها في هذا المقال، والثانية عن
دار نشر المتوسط.
[1] جاك لاكان وإغواء التحليل النفسي، إعداد وترجمة: عبد المقصود عبد الكريم، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى
للثقافة، 1999، ص 287.
[2] رولان بارت، الغرفة المضيئة: تأملات في الفوتوغرافيا، ت: هالة نمر، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010، ص9.
[3] كيفن فانهوزر (وآخرون)، الوجود والزمان والسرد: فلسفة بول ريكور، ت: وتقديم سعيد الغانمى، المركز الثقافى العربى،
بيروت-الدار البيضاء، 1999، ص23.
[4] جاستون باشلار، جماليات المكان، ت: غالب هلسا، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1980، ص43.
[5] جاك لاكان وإغواء التحليل النفسي، م.س.، ص257.
[6] جمالیات المکان، م.س.، ص52.
[7] جاك ديريدا، أطياف ماركس، ت: منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط2، 2006، ص19.
[8] جويل كاندو، الذاكرة والهوية، ت: وجيه أسعد، منشوارات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2009، ص9.
[9] المرجع السابق، ص 47.
[10] أفدت في هذه الصباغة مما كتبه إدوارد سعيد عن علاقة المجاز بالهوية في الفصل الثالث، المعنون بـ ((المنفى الفكري:
مغتربون وهامشيون)) من كتابه (صور المثقف). يُنظر: إدوارد سعید، صور المثقف (محاضرات ریت 1932)، ت: غسان غصن، دار النهار، بیروت، 1997.