أسامة حداد
في مغامرة شعرية مثيرة يقدم أحمد يماني ديوانه الجديد عبر داري نشر هما المتوسط وميريت وفي التوقيت ذاته وعبر 89 نصا شعريا يقدم مقترحا شعريا مغايرا لما هو سائد داخل المشهد الشعري في لحظتنا الآنية، ويكشف عن قدرته على السيطرة على اللغة وتفجير طاقاتها، ويقدم من خلالها أساليب شعرية متنوعة حتى في العلاقات النحوية حيث الجمل الانشائية والخبرية والتقديم والتأخير، وهذه التراكيب اللغوية واستخدام المحور التبادلي فى تكوين الجملة يحملان دلالات عديدة مثل: في أيام لا تمضي إلا بدفع خارجي أو في الليلة القاسية الأفضل ألا تفعل شيئا. فتقديم شبه الجملة يضع الليلة القاسية وما يحدث بها في مواجهة المتلقي، كما تكشف نصوص المجموعة عن القدرة على تقديم تشكيلات جمالية متنوعة وأساليب شعرية متعددة من خلال التخييل والموازاة الرمزية للعالم والذاكرة الاستعادية، إنه يتأمل العالم ويشتبك معه في اللحظة ذاتها، ويخاتلنا من خلال العنوان عتبة النص الأولى ” الوداع في مثلث صغير” ليفتح آفاقا دلالية رحبة حيث الوداع كعلامة سيميائية والمثلث كعلامة تالية وباجتماعهما نشعر بالزوايا الحادة للمثلث والعالم الضيق والحصار الذي تعيشه داخله الذات في وحدتها لكنه يباغتنا داخل المجموعة التي تبدو كنص ممتد بالاحتفاء بالحياة وأحوال الإنسان وصراعاته، فالوداع اسم من ودّع أي تشييع المسافر ويقال وقف على ثنية الوداع أي هرّم وأشرف على الفناء والمثلث اسم فاعل من أثلث والأشكال والخطوط تحمل قيمها الجمالية والتعبيرية والمثلث يرتبط بالخطر والمحرمات، وكثيرا ما نسمع عن مثلث الخطر أو مثلث الشيطان، وعلى العكس من ذلك فالمثلث في الحلم يعني الخير الوفير وله قوته السحرية في اكتشاف الكنوز، والمثلث شكل هندسي به زاويتان حادتان على الأقل، وهو يصف المثلث بالصغير؛ ليؤكد على العالم الضيق الذي ينطلق منه، ومن العنوان إلى التوطئة عتبة النص التالية يباغتنا بمقولة للمترجم والشاعر العراقي “كاظم جهاد” «لا رغبة لديّ في سرد أهوال الرحلة» ليفتح أفقا دلاليا رحبا من خلال الرحلة كعلامة سيميائية وعلينا أن نضع العلامات التي حملتها عتبتي النص الأولى والولوج داخلها ومطالعتها بشكل رأسي وتأملها باعتبارها مكون من مكونات النص لا تنفصل عنه كما أنها من بين مفاتيح القراءة، فالمثلث الصغير يصنع مفارقة مع الرحلة حيث الرحابة والاتساع والرحلة ترتبط بالوداع ومغادرة الأمكنة، وهو ما يؤكد ثنائية الغياب والحضور، كما ترتبط بالحركة والصراع واكتشاف العالم وموجوداته على العكس من المثلث الصغير بزواياه الحادة ومحدوديته وتبدو القصيدة الثانية( في كل خطوة) نقطة انطلاق يكشف من خلالها عن جوهر خطابه الشعري الذي سعى إلى تقديمه في النص الأول ” الخيط”
أحاول أن أشرح ذلك أيضا
في لغة تعلمتها صغيرا.
أن اليد التي تمتد على اتساعها إما أنها يد غريق أو يد منقذ والخيط الممتد من الجبهة إلى القدمين يشكل الجسد، واللغة هي وسيلته لتقديم خطاب حول تلك الحياة واللعبة بين الضحية والمنقذ، أنه لا يقول أنا أيهما بل يبدو وقد اجتمع الاثنان داخله إنه يحاول انقاذ العالم وينشد من ينقذه في اللحظة ذاتها بلا جدوى من ذلك، وليس أمامه سوى النص ليقدمه لتكون القصيدة الأولى أقرب إلى مفتتح للمجموعة ليؤكد أن النصوص داخلها منفصلة ومتصلة في آن فجاءت القصيدة الثانية ” في كل خطوة” بما حملته من رؤى وجملا مركزية مثل:
“على هاوية سحيقة أفقية”
و “أنا خطوة أبي العرجاء
لهذا أرى العالم مائلا من زاوية ما.”
و “من المؤكد أنني أخرجت من داخلي كائنا آخر
كان يتشكل طوال أعوام بانتباهي وبعدمه.”
تمثل مفتاحا للقراءة وكاشفة عن سيرة حياة، بل وتكوين العالم ونشأة الكون بأكمله “كانت لاتزال هناك نهارات وكان العالم حسنا”، إنها ولادة للكون حيث طبقات تتراكم وخطوات تبدأ وخطأ الكلمات يأتي، وهنا ينفتح النص وتبدو الفيوض الشعرية حاضرة بقوة حتى وإن رواغنا بالاقتصاد في اللغة وينطلق تيار صوفي ليسري داخل النص وكذا عن الأداء اللغوي حيث الإزاحة والصمت وفراغات النص دون أن يغفل الفيوض الشعرية بما تحمله من امتدادات وانفتاح لآفاق دلالية ليتحول المتلقي إلى شريك داخله، فضلا عن التقنيات المتعددة للحكي والمونولوج الداخلي حيث الصوت الداخلي الهادر، وتوظيف السيناريو والمجاز البصري وهي تقنيات تمثل ظاهرة داخل قصيدة النثر حيث تكشف عن العلاقات بين الفنون المختلفة خاصة المرتبطة بالصورة وعلاقاتها مع البنى الاجتماعية والتأثيرات المتبادلة بين ما تقدمه السينما والدراما التلفزيونية مع الحياة، والحلم بمفهومه العام، وأيضا المجاز البصري في قصيدة النثر حيث استبدلت البلاغة اللفظية بمجاز بصري، وتمثل الخطوة داخله علامة سيميائية لا يمكن قراءتها بشكل أفقي أنها تتجاوز حركة القدمين، كما أنها ترتبط بالطريق والطريق علامة أيضا وبالزمن وبالخروج والصراع مع العالم، إنها حالة ديالتيكية، إن الخطوة نجدها في قصيدتي “في الليلة القاسية” و”في الحي الغريب” إن التنامي ينطلق من سطر إلى آخر ومن نص إلى ما يليه حيث يشكل كل نص حالة تكمل ما قبلها وترتبط بما يليها حيث الاتصال والانفصال بين النصوص ليتشكل الخطاب الشعري من خلال حياة ممتدة من الذاكرة إلى القدمين ومن النوستالجيا إلى اللحظة الآنية
“فهمت ذلك الانسجام متأخرا
حين لم يعد موجودا.
فقط رأسي الغريبة تقود خيالاتها في طريق فارغ”
ويرتبط الجسداني داخل النص بحالة صوفية، فالجسد هو الحاضر الغائب بتفاصيله ومكوناته وما يرتبط به بداية من اليد الممتدة والخطوة، وليس نهاية بالجسد الأنثوي ومكوناته الحاضرة بقوة خاصة في نص ” شرق وغرب “.
وداخل النص تتسع مساحات الحلم بداية من “أحاول أن أشرح ذلك أيضا
في لغة تعلمتها صغيرا.”
مثل:
“في نهاية المنحدر بيت من دور واحد،
في البيت رجل وسيدة لا ينظران إلى الطريق،
وراء البيت أشجار باسقة تعشش فيها طيور في الأعلى
وفي الأسفل دود قز يصنع بيتا من الحرير.”
أو ” كنت أمدد قدمي وأراقب شعاع الشمس والأتربة العالقة في الجو
وأصواتا حميمة قريبة، لبشر وحيوانات وطيور وحشرات ونباتات”
إن الحلم داخل المجموعة لا يمثل صراعا بين العاطفة المندفعة والواقع بقدر ما هو احتياج بشري حتى لو توافقت مفرداته مع الطبيعة، وكذا يشكل مقاومة وصراعا مع وحشية العالم وقسوته التي تصل إلى ذروتها في النص الأخير ” الوداع” حيث يعمد إلى الاتكاء على الوداع كعلامة مركزية ويكتشف العالم من خلاله إنه يعمد في النص إلى التجريد والتوحد مع الوداع كنهاية للرحلة، على الرغم من أن الوداع هو اكتشاف آخر للعالم والذات وحضور للموجودات حتى لما هو مجاني، لتبدو ثنائية الحضور والغياب حاضرة والذاكرة الاستعادية تجمع أطراف الحياة.
وتبدو المفارقة بنوعيها النصية واللفظية حاضرة بقوة داخل نصوص المجموعة حيث جمع المتناقضات وتكوين شبكة من العلاقات بين أشياء متضادة ومتنافرة في أساسها؛ وهي بجانب كونها تقنية جمالية فإنها تشكل رؤية فلسفية للعالم وتؤكد على قدرة المخيلة على تصور الأشياء واكتشافها من جديد فالسباب يصطحب الحنين أخاه والوحش يطلق النيران على رأسه، واللسان وسادة كبيرة، واسم الحبيبة مشدود إلى قاع الجبل،
“عرفت كلمات الأغنية،
لكنني لم أعرف الأغنية حقيقة”
و
“ازدادت ضربات القلب ولهاث الكلاب”.
ولا يمكننا إغفال أن الذات حاضرة بقوة داخل الخطاب الشعري وفاعلة ترتبط بالموجودات والأمكنة، إنها ليست ذات فردانية منكمشة بل ذات تصارع الحياة وتعيش أزمتها وتبحث عن خلاصها وتتفاعل مع ذوات أخرى في صراع متواصل تقبض فيه على لحظتها التاريخية بعيدا عن النظرة البطولية، وكذا عن تلك الشرنقة التي تقبع داخلها أصوات كثيرة في المشهد الشعري، فالذات الشاعرة لها دورها داخل النص والأشياء تنطلق ما بين الداخل والخارج والزمن تصنعه من خلال زمنها الداخلي أي زمن المبدع الذي يتجاوز الزمن التاريخي الكائن خارجها.
ويكشف النص عن مثقف كبير قادر على صياغة العالم وإعادة تشكيله دون السقوط في براثن المعلوماتية والذهنية التي تبدو حاضرة في نصوص عديدة خاصة في جيل الثمانينات حيث يتحول النص إلى استنساخ لمعرفة كائنة خارجة، وتغيب الذات الشاعرة التي هي محور الفعل الشعري؛ باعتبار الشعر كتابة الأجواء الباطنية والتخييل، وهو ما نجده في المجموعة التي بين أيدينا، والتي تشكل إضافة للمشهد الشعري العربي، والمتلقي حين يطالع النص لن يكون أبدا كما كان من قبل، فالمغامرة الشعرية ليماني ستدفع به حتما لينطلق في الطريق نحو مثلث صغير.