أحمد يماني يخوض تجربة الارتحال الذي لاحدود له

الفرح بـ«مثلث» يمانى
سبتمبر 8, 2024
“الوداع في مثلّث صغير” لأحمد يماني: غناءٌ حقيقيٌّ يتسرّب من الأُقصوصة
سبتمبر 8, 2024

شريف الشافعي

في ديوانه الوداع في مثلث صغير، الصادر حديثاً عن داري ميريتالمصرية والمتوسطفي إيطاليا، يواصل الشاعر المصري المقيم في إسبانيا تأصيل تجربته الخاصة كواحد من شعراء جيل التسعينيات البارزين، مستكملاً ما طرحه من رؤية إنسانية وحساسية شعرية مشحونة بالتدفق والوهج في دواوينه السابقة تحت شجرة العائلة، أماكن خاطئة، وردات في الرأس، منتصف الحجرات“.

عبر قرابة مئتي صفحة، يسعى يماني في ديوانه الجديد لأن يفعل بخفّة وبعمق في آن واحد عَكْسَ المعنى الذي أورده في عبارة الإهداء “لا رغبة لدي في سرد أهوال الرحلة”، وهي مقولة للشاعر العراقي كاظم جهاد، استهلّ بها النصوص التي تراوحت بين الطول والقصر، وتنوعت أسطرها بين الامتلاء والزخم بأسلوب التدوير، والاختزال والتكثيف بتقنية البتر، بحسب محطات الرحلة العصيبة اللامتناهية.

ما من رغبة حقيقية لدى الذات في تقلباتها ومتاهاتها بين السراب والعدم سوى التعاطي مع أثقال الرحلة وأهوالها، تسجيلاً فنياً وسرداً جمالياً وتفاعلاً نابضاً: “في كل خطوة، كنت أنزع طبقة من جلدي، وكان القدر ينزلق خفيفاً على أبواب البيوت، وعلى الحوائط، في خيالات مستقرة، معروفة للجميع”. وفي هذه الارتباكات الحياتية جميعها، المولّدة تلقائياً لشرارة الحالات الشعرية، ليس الوصول هو الهدف الغائي من المشاوير اللاهثة، ولا بلوغ أي شيء ملموس أو معنوي، بل التنقل بحد ذاته، وإثبات إمكانية الحركة، ولو على المستوى الفيزيائي الميكانيكي.

هكذا، يمكن للأيام الثقيلة أن تمرّ، ولو بالدفع الخارجي من مصادر غير معروفة. وإن لم يكن هناك في هذا العالم المائل سوى القسوة والغليان والتعلق في الفراغ المُخيف “لم يعد يسمع سوى الصرخة المرعبة”، فلتتحولْ حشرجات الألم إلى نغمات قلقة. وليكن هناك ائتناس بالخسارات والخرائط الممزقة والخرائب والنهايات، ولتكن هناك ألفة مع الموجودات كلها، حتى مع الوحوش الضارية، وأعنفها على الإطلاق كائن الموت، ذلك الذي يمكن فهمه هو الآخر بشكل مغاير، تحت وطأة الضرورة. فالذين يموتون هم فقط أولئك الذين تنتهي عذاباتهم: “الفوانيس تهتز قليلاً، ونحن نصعد عبر التل/ الموتى ترتاح عظامهم في تحلل أبدي، داحل حزام المدينة”.

الدائرية والتجريد

جاءت طبعتا ديوان “الوداع في مثلث صغير”، المصرية والإيطالية، بإخراجين مختلفين من حيث تصميم الغلاف وخطوطه وألوانه، بل إن مفردة “مثلث” نفسها ظهرت مكتوبة بالحروف في إحدى الطبعتين، ومرسومة هندسياً على هيئة مثلث أبيض مقلوب في الطبعة الأخرى.

ويمكن اتخاذ هذه اللقطة مَعْبَراً إلى دلالة أبعد وأشمل، تتصل بالقيمة الكبرى لكل ما هو هندسي ورياضي وحسابي على امتداد الديوان، بحيث يجري استثماره وتفجيره بحس تجريدي ينأى به عن الشكل السائد الثابت، وببراءة توحي بالانجراف أمام تيارات اللاوعي، وإن كانت هذه الفيوضات خاضعة في حقيقة الأمر لقدر من الانتظام والاشتغال على نحو ما، وفق قوانين وركائز أدار بها الشاعر لعبته وأخيلته، وأقام عليها أبنيته، وأعظمها بناء الوحدة: “كيف تكون الوحدة؟/ أن أراقب كل شيء دون تورط/ وأن أشعر أحياناً أن هيكلي العظمي، كان يمكن أن يكون بطريقة أخرى“.

دائرية الديوان هي روحه، ومفتاح الولوج إلى فضاءاته، وهي دائرية تتخطى الشكل إلى الجوهر، وتفسّر لماذا لا تُطوَى الحياة بالموت، ولا ينجلي الليل ببزوغ النهار، ولا تنتهي الرحلة مهما طال المسار “كنتُ في رحلة لا أعرف متى تنتهي، لكنني لم أكن مسافراً”. فالبداية والنهاية سواء، والخطوات التي ذكرها الشاعر في قصائد الديوان الأولى “بهدف قطع الطريق كاملاً” تفضي في الخاتمة إلى قصيدة “الوداع”، آخر قصائد الديوان وأطولها: “الوداع كان عتبة بيت ومحطة قطار/ كان طائرة تقلع عموديّاً وتختفي/ كان السحاب الذي تشقه الطائرة/ كان الطيور التي تملأ الجو مرة واحدة ساعة الغروب/ كان أعشاشها التي على وشك السقوط من الأشجار/ الوداع كان كائناً منقرضاً، لن يعود أبداً”.

وعلى سطح هذه الدائرية، التي تحكم سائر العلاقات والمشاهد والمواقف والاحتمالات والاقتراحات، تتجاور الخطوط والأشكال الهندسية المنفلتة من مرجعياتها، وتتحاور. فهناك الدروب المتقاطعة والمتوازية التي لا تلتقي أبداً. وهناك “الخط الذي يمتد من جبهتي حتى القدمين”، و”الخيط الذي ينسل وينقطع ويهدأ قليلاً، ويعود لشد أجزائي، ويطوحني على أقرب مقعد”. وهناك المثلث الضيّق الذي قد يفرّط في أضلاعه ويحتوي أرواحاً تطير وجماجم مثقوبة وعظاماً متكدسة، وهناك الدائرة التي تسع قدمين واقفتين، وتنهال الحجارة فيها حتى تسقط القدمان، وهناك المتر المربع المسمى “أصغر آلة تعذيب” في عالم هشّ متضائل.

ميزان الوجع

من بين رفاقه شعراء التسعينيات في مصر، يتحسس أحمد يماني خصوصيته، منذ ديوانه الأول “شوارع الأبيض والأسود”، وصولاً إلى “الوداع في مثلث صغير”، من خلال اعتماد الجسداني المادي والحسابي الرقمي كوجهين لعملة واحدة. فالكائن البشري بكل ما فيه، والكون المحيط بجميع ما يحويه، كلاهما يخضغ لمعايير يمكن تعيينها وقراءة مؤشراتها. وحتى الظواهر والغيبيات والعلاقات والضمائر والمشاعر والأحزان والآلام وغيرها من الممكن قياسها، والعمل قدر الإمكان على إعادة ضبطها، والتحكم في معدلاتها آلياً. بل إنه من غير المستحيل “سحب كتل العذاب إلى بلاد جديدة، في الحدود الغائمة بين القارات، حيث تسطع شمس الظهيرة”، على حد تعبيره في عمله الأخير.

هو شاعر لا يمكنه أن يتواءم مع عصره الروتيني النمطي المفتقر إلى الابتكار والمفاجآت، من غير أن يماهي دقات قلبه ودقات الساعات الكثيرة من حوله، في كل مكان، ويحدد المهام الواجب إنجازها في كل يوم، كما يليق بعقل ليس بمقدوره أن ينطلق أو يفكر بغير أجندة مسبقة وأولويات معدة سلفاً وأشغال مخططة بعناية. ومنها على سبيل المثال ما يسرده من رؤية الزيف القابع في كل فعل نبيل وغيره، وتحليل الخيانة والوصول إلى أنها لم تحدث أساساً بوصفها مفهوماً غير قابل للتطبيق، وتصديق الكذب والمبالغة وإعلاء الذوات البشرية، وعدم تصديق المشاعر العاطفية المختلطة بالدموع، وتصديق الجسد الذي يئن لذة وتعباً، ثم تكذيبه بعدها، وفهم الألوان المجتمعة عشوائياً في حيّز واحد، ومعرفة أو تأكيد معرفة أن العالم فانٍ، ورؤية النجوم من الشرفة والتلويح لها، وزيارة افتراضية لمقبرة العائلة.

الاحداث المعيشة

رؤية الشاعر أحمد يماني، القائمة على وضع اليد بشكل مباشر على الأشياء والتفاصيل الصغيرة ضمن الأحداث المعيشة اليومية، تتطلب إمكانات شعرية فائقة للنجاة من فخاخ المجانية والاستدعاءات الاعتيادية لما تراه الذات وما يدور حولها وما تشتبك فيه من صراعات. فمن الصعوبة بمكان أن يفعل أحدٌ شيئاً في بيت تصفر فيه الريح، خارج فكرة ترديد صفير تلك الريح.

وتبدو نصوص مثلث صغيرمحصّنة ضد هذه الانزلاقات جيداً، فالقاموسية البسيطة على مستوى اللغة التوصيلية، وعلى مستوى الأداة البدائية لالتقاط الصور، لا تحول دون العمق، الذي مبعثه التأمل وتراكم الخبرات وفرادة التفاعل بين الأنا وما تلتقطه. إضافة الى حسن انتقاء زاوية النظر إلى الأمور بأبعادها المركبة، ورهافة التعبير عما قد يبدو عادياً، لكنه يكتسب بالكلمات وظلالها طاقة استثنائية، مثلما تدب في الجسداني روحانية مباغتة: “كل انهيار جديد لجسدي أكافئه بملابس جديدة/ مع السقوط الجماعي للشَّعر أشتري جاكت/ مع ابيضاض الحاجبين حذاءً طويلاً/ مع تجاعيد الجبهة بنطلوناً/ ولانحناءة الكتف كوفية صوفية/ لستُ متأسياً على الفقد ولا فرحاً بالاكتساب/ فقط أضع لكل مقامٍ غطاءً“.

ديوان “الوداع في مثلث صغير” لأحمد يماني، مساحة جمالية وإنسانية مقترحة للالتقاء مع الأشياء والتفاصيل الصغيرة ضمن الأحداث المعيشة اليومية،. فقد تكون هناك فرصة للنجاة من مصير هؤلاء “الذين يقضون أعواماً طوالاً سجناء من دون جريمة، وأحياناً تظهر براءتهم، وفي أغلب الأحيان يتعفنون خلف الحياة”.