محمود خير الله
أعترف بداية بالتقصير لأننى لم أكتب من قبل عن تجربة الشاعر الكبير ـ المقيم فى أسبانيا ـ أحمد يمانى، رغم إعجابى بكثير من أعماله الشعرية،
منذ قرأت ديوانه الأول “شوارع الأبيض والأسود” منتصف عقد التسعينات من القرن الماضى، هذا الديوان بطبعته المحدودة والذى أصبح أيقونة جيل كامل من الشعراء، إلى أن توالت دواوينه “تحت شجرة العائلة” و”وردات فى الرأس”، و”أماكن خاطئة” و”منتصف الحجرات”، وآخرها “الوداع فى مثلث صغير”، والدواوين الأربعة الأخيرة صدرت عن دار “ميريت” للنشر على مدار عشرين عاماً.
أعترف بالتقصير فى حق أحمد يمانى لأنه صديقى وابن أيامى أولا وقبل كل شىء، ولأننى ثانياً قرأت وأعجبت كثيراً بما كتب وبما ترجم من شعر أسبانى، مثل: “الغناء بصوت خفيض” للشاعر أجوستين بوراس و”العناكب تنسج أقمشتها الزرقاء”، للشاعر ليوبولدو ماريا بانيرو، و”لا شىء يشبه القلب” للشاعرة أليخاندرا بيثارنيك الذى ترجمه بالاشتراك مع الشاعرة رنا التونسى، وأنا هنا لأغتنم الفرصة لمصاحبته فى أسئلته الشاقة حول الشعر، حيث تقف قصائد ديوانه الأخير “الوداع فى مثلث صغير” طويلاً أمام آلام الوحدة والغربة والعيش فى بلدٍ بعيد كواحد من المهاجرين.
لقد انتبه أحمد يمانى مبكراً إلى ضرورة الإخلاص للشاعر الذى فى قلبه، ولم تستهلكه مقولات نهاية التسعينات النقدية البائدة عن انهيار الأيديولوجيات وبقاء الأجساد كحقيقة وحيدة ونهائية، هو الشاعر الذى يستحق نصه أن يعيش وأن يدوم وأن يتطور مع تطور الزمن. لقد خالف يمانى جميع نقاد عصره تقريباً وكتب شعراً فى “القضايا الكبرى”، ومنذ “شوارع الأبيض والأسود” ظل نصه يقول إن قصيدة النثر ليست على عداء مع “القضايا الكبرى” التى يعيشها الإنسان، بل إن الجسد البشرى بنزواته وإحباطاته ونزقه معاً يمكن أن يكون فى حد ذاته هو القضية الكبرى، وهى الفكرة التى اعتبرها ناقدنا الكبير الراحل إدوار الخراط (1926 ـ 2015)، قبل نحو ربع قرن خصّيصة من خصائص قصيدة النثر الجديدة، حين قال فى كتابه “شعر الحداثة فى مصر دراسات وتأويلات” :
“إن قصيدة النثر لا تتناول الأسئلة الكبيرة ـ الموت والحب والعدالة والمطلق والحيف الاجتماعى أو الكونى إلى آخره ـ كما تناولها شعر التفعيلة الحديث، سواء فى أيام تقمّصه مسوح الأنبياء أو حتى فى نزوله الأرض لكى يسأل بلوعة ولا يجيب ولا يعرف أن يدعى المقدرة على الإجابة، بخلاف ذلك كله تمس قصيدة النثر هذه الأسئلة الكبرى مساً من بعيد، تنفض لها رأسها متعرفة عليها، دون أن تزعم لنفسها قدرة على الغوص فيها، لكنها تتعرف عليها وتعترف بها، بل لعل ذلك من أهم خصائصها، اعترافاً يكاد يكون سرياً مضمراً خفياً، يكاد يكون غير مُعترف به”.
فى “الوداع فى مثلث صغير” ـ الذى صدرت له بالتزامن طبعة عن دار “منشورات المتوسط” فى إيطاليا ـ لم تكن كتابة الغربة اختياراً من بين متعدد، بل حياة تُعاش ويفنى فيها الشاعر بكل حواسه، “الوداع” الذى ليس عنواناً للمجموعة الشعرية فقط، بل هو اسم لآخر قصائد الديوان وأطولها وأكثرها عذوبة وتشكيلاً، فى القصيدة كما فى الديوان كله، الوداع هو مفتاح العالم تقريباً، الشىء ونقيضه، زمن المهاجر وعمره وتضحياته وعذابه ووحدته وضياعه ورعبه من الموت والنسيان، الوداع ينطوى على تجسيدٍ لكل ما فى الغربة من آلام وجروح لغوية ونفسية واجتماعية، ما يجعله “أى الوداع” يطاول هنا تجربة النفى ويعادل السجن، وربما يقترب من مرارة التعذيب.
لا وداع دون بكاء
الذات الشاعرة تبدو فى كثير من النصوص مهمشة ومبعدة ومقصية بفعل فاعل، تبدو كأنها تتلصَّص على العالم، كما لو كانت محبوسة فى زاوية ضيّقة منه، لكنها تستطيع ـ رغم ذلك ـ أن ترى كل شىء فيه، أن ترى بالأحرى أكثر منا، تستطيع من زاويتها الضيقة تلك أن ترينا شيئا لا نعرفه عن هذا العالم، كونها تعانى من تجربة الغربة التى لم نعشها:
الذات هنا تعانى الخوف المبالغ فيه والذى قد يؤدى بها إلى الانقسام والتفسخ، تعانى الصمت كسمة من سمات المهاجرين الذين لا يتقنون بالضرورة لغة المجتمع الجديد وثقافته، الأمر الذى يكثف مشاعر عدم الترحيب بالغريب، بالإضافة إلى مشاعر الذنب التى يشعر بها أى غريب تجاه بلاده الأصلية، الذنب تجاه اللغة التى هجرها لسانه وكاد أن ينساها، اللغة التى لا يزال قادراً بها ـ رغم كل شىء ـ على أن يحلم، كما يعانى المهاجر أيضاً من فكرة “الخوف من النسيان”، وهو بهذه القصائد يحاول أن يكون موجوداً، أن يحكى ما حدث له لكى يُديم وجوده ببقاء القصيدة فى ذاكرة كل قارئ، وليس من باب المصادفة طبعاً أن يهدى الشاعر ديوانه إلى مهاجر عظيم آخر، هو الشاعر والمترجم العراقى كاظم جهاد، كما يصدّر الديوان بعبارة له أيضاً، تقول: “لا رغبة لدى فى سرد أهوال الرحلة”.
صوت الشاعر هنا مثل ذاته، يبدو حبيسَ حزنه جراء ضغوط مجتمع الغربة عليه، هذه الضغوط التى لا يخففها الحب بل يضاعف من انقسامها، لذلك يبدأ بأن يثبّت فى أول مقطع ملامح جسده أمام العالم الجديد كنص فى مواجهة النسيان، يقول فى قصيدة “الخيط”:
“أمد يدى على استقامتها
أخفضها وأهز رأسى،
أحاول أن أشرح فى لغة تعلمتُها كبيراً
ذلك الخط الذى يمتد من جبهتى حتى القدمين
الخيط الذى ينسل وينقطع ويهدأ قليلاً
لكنه يعود لشد أجزائى
ويطوحنى على أقرب مقعد.
أحاول أن أشرح ذلك أيضاً
فى لغة تعلمتُها صغيراً”.
هذه الحالة من التعدد اللغوى “الشتات” التى يعيشها الشاعر تنعكس على شعره وتنقله من منطقة الوصف إلى منطق الشعر الذى لا يمكن توقعه، فى مشهد واحد هناك لغة تعلمها صغيراً وأخرى تعلمها كبيراً وثالثة يُفترض أنها اللغة الأصلية للذات الشاعرة، هذه الأوجه المتعددة للذات، التى تعلمت الانجليزية صغيرةً والأسبانية كبيرةً إلى جوار العربية “الأم”، تريد أن تصف نفسها لمجتمع الغرباء، كأن كل محاولة لوصف الذات سوف تلقى هذا المصير المنقسم ثلاثياً على نفسه، أو أن تذكره كل محاولة لوصف الذات بأنه امتداد لخطأ كونى أكبر: “أنا خطوة أبى العرجاء/ لهذا أرى العالم مائلاً من زاوية ما”.
هذه المرارة لا يمكن أن تكتبها سوى ذات مغتربة تعانى الانقسام وهى هنا لكى تصفه، حينما تريد أن تعبر عن نفسها بلغات لم تترب عليها منذ الصغر، وبالتالى ينجم عن كل ذلك مخاوف من ضياع الهوية الأصلية، المغطاة بهويات أخرى، غير أصلية. هذه الشخصية المغتربة هى التى تكون بحاجة إلى أن تمسك بهذا “الخيط” وهى التى تضطرها الظروف بكل تأكيد إلى أن تفسر نفسها أمام “الغرباء”.
عناوين القصائد تغزل بطريقتها طرقاً متباينة إلى معانى الاغتراب ومعضلاته: “فى الحى الغريب”، “يدى الخائفة”، “تهديد”، “ليل كامل”، “لغة أجنبية”، “هجرة”، “العودة”، “الإهانة”، “ليلة فى الشارع”، “الشرق والغرب”، “الوداع”، كلها تشير إلى حقول دلالية تتعلق بالرحلة التى أراد الشاعر أن يسرد لنا فى هذه القصائد أهوالها، معارضاً فى ذلك صديقه وأستاذه كاظم جهاد.
لعبة الموت
الحقيقة أن أحمد يمانى يُعتبر واحداً ممن امتازوا مبكراً بكتابة النص السير ذاتى أو “شعرية السرد السير ذاتي”، كما سماها الشاعر الراحل الدكتور شريف رزق فى كتابه “آفاق الشعرية العربية الجديدة فى قصيدة النثر”، مركز الحضارة العربية 2012، حيث يتم استثمار طاقات السرد وآلياته المختلفة داخل النص الشعرى، مع سرد التفاصيل الخاصة والتاريخ الشخصى، القصائد لهذا السبب تبدو مكتوبة بطريقة المذكرات، أو اليوميات أو الاعترافات، وهى تتبع طرقاً فى ذلك مثل: شعرية الكولاج والمونتاج البصرى، شعرية تفتيت المشهد إلى مجموعة لقطات أحادية الزاوية، شعرية تفتيت الزمن وتقطيع أوصال الحكاية عبر سرد بصرى متدفق، إن كثيراً من القيم السردية التى تعمل فى نصوص أحمد يمانى، تعتمد بشكل أساسى على إعادة ترتيب الحكاية بطريقة تمنح المفارقة الدور الأكبر، وهذا النص “أغنية للأطفال” يشير بوضوح إلى بعض القيم السردية عنده:
“الأولادُ قرروا قتل أول عابر
لم يكن الأمر شخصياً
ليته كان.
على مقعد فى الحديقة العامة المظلمة، يلهون،
لم يكن الأمر شخصياً
ليته كان.
كان قادماً من العمل، من سهرة مع الأصدقاء، من السجن، من بيت أقاربه،
من مدينة أخرى، من بلد آخر، من تعب، من غرفة العشيقة،
كان قادماً وذلك كان كافياً.
صوب أصغرهم، وضعوا السلاح اليدوى فى يده،
ضحكوا وقالوا له اضغط يا عبيط
وضغط العبيط.
انفجر البارود فى صدر الرجل القادم
وانفجر الأولاد فى الضحك وفروا هاربين.
سقط سقطةً بسيطة ولم يتمكن من شق قميصه كى يرى الجرح الغائر.
لم يتعذب،
ليته فعل،
لكان مرّ أحد وينقذه
لكنه لم يتألم حتى
لم يكن الأمر شخصياً
وليته كان“.
هذا الرجل الذى مات فى نص “أغنية للأطفال” هو غالباً صورة من صور الذات، انسان بلا هوية، خارج عن التصنيفات، لكنه يستحق أن يعيش، وحين يموت بسبب لهو أطفال قساة يستحق ـ أيضاً ـ أن يتألم وأن يتأمل جرحه ويطالب الآخرين بإنقاذه، وفى المقابل، هذا المشهد يضم أيضاً أطفالاً قتلة لا يستحقون حيواتهم، على الرغم من أنهم ينتمون إلى هوية واضحة “طفولتهم على الأقل”، يلهون فى الشارع بحيوات الآخرين ويعبثون بمصائرهم دون خوف من العقاب، هكذا يبدو أن الموت وجه من وجوه الوداع فى قصائد يمانى، أو هو ـ على الأقل ـ أحد احتمالاته الراجحة، فالموت ـ مثل الوداعات ـ كثير فى هذا الديوان وهو كثيف جداً فى شعره عموماً، وفى هذا الديوان يبدو الوداع نقيضاً للكتابة، على نحو خاص: “كنت أصرخ فى الليل مخاطباً الإله:/ مقابل كل ألم كبير امنحنى قصيدة/ مقابل كل حبيبة ذهبت امنحنى ليلة كاملة/ أكتب فيها ثم أنام فى الخامسة صباحاً/ ناسياً شرورهم”.
الحق أن الموت احتل مساحة واسعة من القصيدة العربية ومن الشعر الإنسانى كله، كونه التجربة الأعمق التى لم تحل، لا كإشكال فلسفى ولا كمعضلة علمية، إلى الآن على الأقل، إلا أن الموت اتخذ لنفسه مساراً خاصاً فى قصيدة النثر المصرية على وجه التحديد، ويبقى فى تجربة أحمد يمانى وجها خاصاً من وجوه الحياة ومن معانيها الأصيلة، التى تعيد تفسير العالم، وهذا واحد من قصائد الموت الجميلة فى تجربة يمانى بعنوان “الجنازة”، أنهى به هذا المقال:
مات تشيمو هذا الصباح
تشيمو ليس صديقى لكنه مات.
كان يتحدث بلا انقطاع كمن يسدد ديناً قديماً للكلمات
التى على وشك أن تهجره.
غداً سألبس معطفى الأسود وأمضى إلى الجنازة،
وعندما أعود إلى البيت سأبتسم لنفسى.
اليوم مات تشيمو،
أحد معارفى،
وها أنا
لم أعد غريباً
فى هذه البلاد”.