“الوداع في مثلث صغير” لأحمد يماني: الأرضُ تحت خطوةٍ عـرجاء

«الوداع في مثلث صغير»:  عندما ينخرط الشاعر في تأويل جسده
أبريل 2, 2021
الشاعر المصري أحمد يماني بعد ديوانه الجديد: نضجت إنسانياً وحطمت التابوهات
يونيو 5, 2021

طارق إمام

“أحاول أن أشرح في لغةٍ تعلمتُها كبيراً/ ذلك الخط الذي يمتد من جبهتي حتى القدمين”: انطلاقاً من هذا السطر المبكر في الصفحة الأولى، وحتى آخر كلمة في الصفحة الأخيرة، سيحاول أحمد يماني في مجموعته الشعرية الأحدث “الوداع في مثلثٍ صغير” * تعريف ذلك الخط، الذي يعني باختصار حدود جسده. يفعل ذلك عبر لغتين في الحقيقة، هذه التي تعلّمها كبيراً حيث هاجر، وتلك التي تعلّمها صغيراً حيث وُلِد، وبها يكتب: “أحاول أن أشرح ذلك أيضاً/ في لغةٍ تعلّمتها صغيراً”.
لغةٌ اضطراريةٌ للتلفظ، وأخرى لا مناص منها للتدوين، وبينهما وجودٌ عالق بين الكلام والكتابة.
ما السبيل إلى تمثيل الجسد/ العلامة الحسية، باللغة/ العلامات المجرّدة؟ سؤالٌ لن يكف عن اختبار نفسه، بامتداد القصائد التسع والثمانين، قصيرها وطويلها، حيث ثمة بلا هوادة المعيش التجريبي وهو يتساءل عن عملية تحوّله إلى نصٍ تجريدي قوامه الكلمات (أليس هذا هو في الأخير سؤال الشعر نفسه؟).
وبجسدٍ لم يرث سوى ما اقتُطِع من قامة الأب، يتبنى الوارثُ بدوره “خطوة الأب العرجاء”، ليُصبح مشيُه المُراوِح، عدمُ تساوق قدميه فوق الأرض بخطوةٍ تعلو الأخرى، صيغةً لحركته في العالم، وحيث تتجسد زاوية رؤية الوجود شعرياً في هذه المجموعة الشعرية البديعة: “أنا خطوة أبي العرجاء/ لهذا أرى العالم مائلاً من زاويةٍ ما”.
** صعود الجبل.. نزول المقبرة
تبدأ مجموعة يماني بـ”الخيط” وتنتهي بـ”الوداع”. إنهما أكثر من عنوانين ناصعي الدلالة لأولى القصائد وآخرها، فبين الميلاد الكامل والفناء التام، يبدوان قوسين على شاهد مقبرة.
يؤطِّر القوسان بناءً شمولياً للكتاب لا يخلو من وعيٍ خطي أفقي، يُحاكي تراتبية الحياة من بزوغ شروقها وحتى قيامتها، ليغدو اقتراب الذاتُ من النهاية، قصيدةً تلو أخرى، هو رحلة الوجود كله من المعنى/ اللغة، إلى العدم/ انتفاء اللغة.
صدعٌ هائل بين السطر الأول في الكتاب: “أمد يدي على استقامتها”، والسطر الأخير: “كان الوداعُ وداعاً لنفسه/ وكان وداعاً”، صدعٌ تترجمه الهوة بين المضارع الذاهب للمستقبل، للغد، كل غد، وبين الماضي التام، الواقف على الأطلال، والمؤكِّد على النهاية. وثمة الصدع نفسه على مستوى البنية الشعرية أيضاً، بين المفتتح/ الومضة، إحدى أكثر القصائد تقشفاً في حدود الحيز، والقصيدة النهائية، أطول القصائد على الإطلاق وأشدها استجابةً لسيولة التداعي الحر. وأخيراً، ثمة الصدع بين الذات المتكلمة في النص الأول والضمير الثالث في النهاية كأن الذات خرجت من المشهد.
اللغة نفسها تتحرك وفق وعي خاص بتشكّلها من الميلاد للأبدية. تبدأ اللغةُ من تقمصات عميقة للغة قصة الخلق التوراتية المتصلة بالتكوين: “ثم أتى خطأ الكلمات/ وتراكمت كل طبقات الجلد بعضها على بعض/ ثم جاء الكذب وراء الكلمات/ وجاءت الدماء وجاء الموت/ كانت لا تزال هناك هناك نهارات/ كان العالم حسناً”. جميعنا نعرف مركزية “الكلمة” في قصة الخلق: “في البدء كان الكلمة”، هنا قصة خلقٍ موازية تتبنى الأسلوبية ذاتها لكن في الاتجاه المعاكس، انطلاقاً من “كذب الكلمات”.
شيئاً فشيئاً تبدل اللغة من جلدها، تخف حمولات الاستناد لنصوص الإنسانية، حتى تصفو في النهاية من التناصات الأخروية لصالح تناص مع نص الشاعر نفسه، فقصيدة “الوداع” تكاد تكون استلهاماً بنائياً لقصيدة سابقة للشاعر هي “الحب”، حيث يجري إنتاجها بنفس الآلية بالضبط: دالٌ تكراري، يمثل معنى مجرّداً، يُختبر مع كل سطر بتعريفٍ جديد، في سياق نصٍ طويلٍ متصل، وينتهي من حيث بدأ في بنية قصيدةٍ دائرية.
هذه المرة يوسِّع يماني _ وأكثر مما فعل في أي تجربةٍ سابقة _ من حدود الذات المفردة، ليصلها بالعالم وفق وعيٍ صوفي، بحيث يصبح كل منهما حرفياً مُضمَّناً في الآخر، وبلغةٍ تترجم هذا الوعي الصوفي أيضاً إلى أسلوبية مهيمنة.
تبدو صورة “العالم المائل” وفق قراءة شمولية كسفينة ما تزال مؤخرتها تطفو فيما مقدمتها بالفعل تحت الماء. وجود عالق، لا يمكن وصفه بالناجي ولا وسمه بالغارق. الصعود والهبوط، فعلان مهيمنان هنا، بين تسلّق جبل مع حبيبة _مغادرة الأرض نحو الأعالي في تجسيدٍ شديد الرمزية لفكرة الحب نفسها _ وهبوط مقبرة، نحو ما تحت الأرض، كذات منفردة إجبارياً، حيث لا شراكة في لحظة الموت.
قصيدة يماني ذاهبةٌ هذه المرة لنصٍ قيامي، إذ مع الثلث الأخير من الكتاب تميل القصائد بجلاء، مع العالم المائل، وتأرجُح القدمين، لاهثةً كسيل في منحدر باتجاه الحفرة، لتغيب في الثقب الذي يبتلع كلَّ شيء.
** الوداع في مثلث كبير
يكاد الجسد في هذه المجموعة يُختزل في القدمين. لا يكف يماني عن استخدام أفعال من قبيل: أمشي، أتقدم، أخطو، أتجوّل، أعبر، أتنقّل، أمر، أعود. لا يكف عن استخدام الدّالين المكانيين: هنا/ هناك، دون تسمية للمدن، فلا قاهرة ولا مدريد، كأن هذا التجريدُ أكثرَ من كافٍ لتجسيد ما يقصد.
تنهض قدما الذات الشاعرة في مقابلةٍ مع دراجة الأب التي يتكرر حضورها، سواء كعلامة طليقة على ذروة حياته، أو كشاهدٍ مقيّد بسلسلة على جثمانه في لحظة “الغُسل”. يتفق الابن والأب على فكرة التنقل الدائم، لكنهما يختلفان في إيقاع المشهد باختلاف أداة الحركة.
يبدو أحمد يماني مهجوساً بالمكان منذ أول كتبه “شوارع الأبيض والأسود”، وتعكس جميع عناوين مجموعاته الشعرية بلا استثناء ذلك الولع: “تحت شجرة العائلة”، “وردات في الرأس”، “أماكن خاطئة”، “منتصف الحجرات”: جميعها عناوين يحتل بطولتها المكان، وتختبر التموقعات المكانية وعلاقاتها سواء رأسياً من فوق لتحت، أو أفقياً من البدء للمنتصف للنهاية. هذا الولع تترجمه التجربة الشعرية ليماني بوضوح، فالانتقال المكاني لا يسم فقط الذات الإنسانية، بل حتى الكلمات التي تتنقل بين مواضعها، حيث الكتابة نفسها هي حركة الكلمات في حيزٍ مكاني هو الورقة (إنه مجدداً تمثيلٌ رمزي للفعل الشعري بالذات)، وحيث يُجلب النص إلى منطق الواقع في إدراك المكان الحسي وتحريك موجوداته: “حرّكت بعض الكلمات/ نقلتها من أماكن خاطئة”.
العلاقات داخل اللغة الشعرية عموماً علاقات مكانية، جوارٌ لا تعاقُب، محورٌ رأسي استبدالي لا أفقي تعاقبي، حيث تتحقق دلالةٌ ما دون غيرها من طريقة انتظام بعينها للعلامات. وباختلاف علاقات “الجوار” يتغير أفق الدلالة نفسه حتى لو لم يتغير جوهر “المادة” الشعرية. والمكان في مجموعة يماني الجديدة يُعبِّر عن تكوينه انطلاقاً من العنوان الذي يتخذ من “المثلث” شكلاً أساسياً ودالاً، ووصولاً للقصيدة الأخيرة، أطول قصائد الكتاب، والتي منها استمد عنوانه هذا. ورغم أنني لا أحب الإفراط في تأويل ما يسمى بالعتبات النصية، لكن هذا التكوين هو فعلياً خارطة المكان الشعري المجرّدة هنا، لو تخيلنا أنفسنا نتأملها من أعلى.
في الحقيقة، ثمة “مثلث كبير” يُهندس حدود العالم الشعري. تتخبط الذات بين أضلعه مبدّلةً بينها، ذهاباً وعودة: ضلع مسقط الرأس، وضلع “البلاد الجديدة” كما تُدعى شعرياً، وضلع “المقبرة” حيث يوارىَ العالمان مكاناً ثالثاً، لتتحد اللغتان أخيراً على شرف التراب: برج بابل القادر وحده على توحيد اللغة ولو بمحوها.
دائماً الذاتُ عالقة في الأمكنة، على النواصي وفي التخوم والحواف. الذات، كانت في مسقط الرأس تقف “على ناصية شارعين” (أولاد الحي) وفي الحاضر تقسم المدينة إلى نصفين مع الحبيبة السابقة عقب غرامٍ مغدور، بحيث لا يلتقيان صدفة. دائماً يضع المكان حائلاً ضد اتساق الذات، حتى الرغبة في أن يتكرر الطريق إلى البيت (قرب البيت) وهو ما يبدو معطى بديهياً، لا تتحقق. افتقادٌ لن يلبث أن يجعل الذات تتمنى لو كانت “داخل النوافذ جميعها” (نوافذ البيت).
لكن يماني يفعل ما هو أعمق، بتقريب حدود الجسد إلى حدود المكان، مكتسباً أبعاده أفقياً ورأسياً لدى تأمّله. إن قصيدة مثل “يدي الخائفة” تُبرز ذلك بنصاعةٍ مشهدية، بالتفات مدهش للإحداثيات انطلاقاً من خريطة الجسد الإنساني نفسه: “أفكر في يد هذه المرأة/ لا أفكر في كرسيها المتحرك/ على حصى صغير،/ أفكر في يدها وأتملاها كقطعة نقود جديدة لن أنفقها،/ هي تُسقط نظرتها على رِجلي مباشرةً،/ ولا تفكر في يدي،/ لا تقصد تذكيري أنني أتحرك/ لكنها لم تتدرب بعد على رفع عينيها وشد حاجبيها وتقطيب جبينها/ حتى تتلاقى النظرات في مستوى ما يصعد من الأسفل./ كان تلاقي النظرات في ذلك المستوى/ كافياً ألا أتأمل يدي الخائفة”.
الأضلاع الثلاثة تعكس أيضاً الأزمنة الثلاثة: ماضي الذات، وحاضرها، ومستقبلها الذي لا يقف عند حدود الموت. تتجرأ قصيدة يماني لتجعل من الموت هذه المرة عالماً ما ورائياً، بعد أن كانت تقف على أعتابه في تجارب سابقة. هذه المرة لا يترك يماني المقبرة ويستدير، بل يدخلها، وربما هذا ما يمنح هذا الكتاب بالتحديد، فوق تجارب يماني السابقة، حساً ميتافيزيقياً فادحاً.
اللغة الشعريةُ أيضاً تبدو هنا في مراوحةٍ عميقة، بين وجهٍ تداولي، تشف فيه الدوال عما وراءها وصولاً لمفارقةٍ شعرية، ووجهٍ أكثر عتمة، يحتاج جهداً أعمق في التأويل، وتبدو فيه اللغة عصيةً على العمل كجسرٍ يشف نحو ما ندعوه الدلالة. المراوحة نفسها تنعكس على توتر القصيدة، اقتراباً وابتعاداً من السرد وعنه، والذي يبقى عنصراً أصيلاً، لا تُنكره قصيدة يماني بينما تنقب بلا هوادة في السردي عن الشعري.
**جسد القصيدة على رفات الحكاية
لا قصيدة في “الوداع في مثلث صغير” تخلو من مدينةٍ مرتدةٍ إلى مكوناتها المكانية الجزئية، علاماتها الصُغرى، من خلال جسدٍ في وضع حركة: التنقل في غرفة، التقدم في بيت، عبور شارع، طلوع رصيف أو هبوط منحدر. ويبدو المكان مع الحركة كأنه يمشي أيضاً، يتحرك، ليظهر ويختفي بدوره، لذا فالمكان في قصيدة يماني ليس فقط حيزاً يرصده العابر. المكان نفسه هو العابر.
كل انتقالٍ في المكان سرد، تصحبه حركة حتمية في الزمن أيضاً. ربما لذك ليس مستغرباً أن قصائد يماني في عديد الأحيان تنهض بلا مواربة على موادٍ حكائية، حيث يتمدد شبح قصة خلف القصيدة: واقعة ما، تستدعيها الذاكرة أو تلتقطها العين أو يختلقها الخيال. المروية يجري اختبار جوهرها الشعري، ودون استبعادٍ كامل لأفقها الحكائي يُعاد تشكيل عناصرها، بحيث تطفو المفارقة الشعرية فوق منصة إطلاقها: “الحدث”.
ثمة قصيدة مثلاً مثل “أغنيةٍ للأطفال”، منبعها سرديةٌ واضحة: “الأولاد قرروا قتل أول عابر/ لم يكن الأمرُ شخصياً/ ليته كان./ على مقعدٍ في الحديقة العامة المظلمة، يلهون،/ لم يكن الأمر شخصياً/ ليته كان./ كان قادماً من العمل، من سهرة مع الأصدقاء، من السجن، من بيت أقاربه، من مدينة أخرى، من بلد آخر، من تعب، من غرفة العشيقة،/ كان قادماً وذلك كان كافياً./ صوّب أصغرهم، وضعوا السلاح اليدوي في يده،/ ضحكوا وقالوا له اضغط يا عبيط/ وضغط العبيط./ انفجر البارود في صدر الرجل القادم/ وانفجر الأولادُ في الضحك وفروا هاربين./ سقط سقطةً بسيطة ولم يتمكن من شق قميصه كي يرى الجرح الغائر”.
لن يخطئ قارئٌ تمثُّلات الحكاية هنا، حتى أن عبارة حوار ستُطرح بالعامية، وهو ما لا يجرؤ عليه كثير من الساردين.
بمنطقٍ شبيه تتحقق قصيدة مثل “سينما الحي”، والعنوان نفسه يعد بحكاية: “صانع معارك السينما المعروف/ سكن شارعنا في آخر حياته./ في العصاري يضع كرسيّاً مريحاً/ أمام بيته ويجلس بوجهه المحمر./ لا يتحرك عند اندلاع معركة في الشارع/ ينظر للمتعاركين بطرف عينه،/ لكنه أحياناً كان يهم بالوقوف/ كمن يريد تعديل ضربةٍ ما/ أو وضع أحد المتعاركين في موضع آخر./ وفجأة يسحب كرسيه إلى الداخل/ يُلقي نظرة أخيرة على المعركة/ ويضرب كفيه ببعضهما/ متحسراً على تلك الأشباح التي تتحرك أمامه/ صارخةً فقط ومبتعدة قدر الإمكان عن التشابك./ بفمه في طريقه للداخل يضع المؤثرات الصوتية/ وفجأة يصبح للضربات معنى/ إذ يشتبك الحشدُ في النهاية على وقع أصواته/ ويذهب هو إلى سريره”.
هاتان القصيدتان نموذجان ليس إلا على نمط من القصائد “السردية” التي تلتقط مشهداً قصصياً محافظةً حتى على زمنيته الداخلية في تعاقب حلقات الحدث خطياً من بدايته لنهايته. لا يخشى يماني هذا الاقتراب من السرد في أقرب نقطة، ويراهن على استنهاض الشعري سواء من خلال طبيعة المفارقة، أو قوة العبارة الشعرية التكرارية الموقَّعة من قبيل “لم يكن الأمر شخصياً/ ليته كان”، وقد فعلها من قبل في إحدى أبرز قصائده “تحت شجرة العائلة” التي شيّدت محكية الأب/ الأسرة شعرياً.
وإذا كان من ملحوظةٍ هنا، فأن جرعة السرد تعلو كما كان منبع القصيدة مسقط الرأس، بينما تزدادُ خفوتاً في “الأرض الجديدة”، وكأن طاقة المحكي قرينة التكوين الأول أو ظل الفطرة حتى ونحن بصدد وجدانٍ شعري.
**الكلمات التي قيلت، الكلمات التي لم تُـقَـل
لا يلبث دال “اللغة”، الكُلّي المجرّد أن يُفسح المجال للدال الذي يمثل مُكوِّن اللغة المتجسِّد: “الكلمات”.
في “الوداع في مثلث صغير” لا قصيدة تخلو من استدعاء دال “الكلمات”، من الهمس للصراخ، ومن العبارات التداولية المفهومة لتلك الأقرب لشفرة، ومن التساؤل عن الكلمات، سواء حين تُنطق، أو لدى البحث عنها، عن جدواها وخوائها معاً. تبسط هذه المفردة هيمنتها على القصائد، حتى أن محاولة حصرها ستغدو ضرباً من الإحصاء الجاف. الذوات الشعرية في قصيدة أحمد يماني دائماً تتكلم داخل القصائد، تتبادل الحوار، سواء نَقلت القصيدة كلماتها المباشرة على ألسنتها، أو اختزلتها على لسان الذات الشاعرة. “حياة الكلمات وموتها”: إنه خطٌ آخر يسعى نص يماني لشرحه.
قصيدة “النصيحة” مثلاً تمثل خطاباً مباشراً بالكامل على لسان صاحبته لا تتدخل الذات الشاعرة فيه إلا بتعليقها في السطر الأول: “قالت لي”. إنه مونولوج لأنثى لن يلبث أن ينتهي بنصيحة تخص الكلمات: “تبجح ولكن قليلاً،/ دون أن تذكر أبداً/ لمستها لروحك/ لأنك أنت نفسك لن يمكنك/ أبداً أن تعرف الكلمات”.
لكن ثمة أنثى أخرى، على النقيض، تفعل العكس بالضبط، ومجدداً تتدخل الذات بأقل قدرٍ ممكن كي تفسح أمامها المشهد كاملاً، في القصيدة التي تحمل دون مواربة عنوان “الكلمات”: “لماذا أرادت الالتحاق بحشد الكلمات؟/ بالأفكار التي لا تملكها، باللغة التي تخدعها هي أولاً؟/ ومحدثها حائر في صياغاتها المفاجئة والغامضة/ والخارجة عن كل سياق./ ماذا فعلت الكلماتُ بتلك المرأة بعد عشرين عاماً؟”.
الكلمات هي الشعر أيضاً حين تنتقل من التلفظ إلى التدوين. الشعر يحضر كموضوعٍ شعري، مؤنسَن حد أن الذات تخاطبه مباشرةً كمخاطب. قلما يستخدم يماني ضمير المخاطب، بكل ما فيه من شحنة عاطفية، مناجاة، وربما هذا نفسه فخ. لذا يوظفه يماني في مواضع محددة بعناية، ويركن إليه فقط عندما يخاطب الشعر أو الحبيبة، سواء كانت الصيغة متلفظاً أو تدويناً، وسواء كان هو من ينتج الخطاب أو يتلقاه: “عزيزتي” ، “بعد أعوام تصلني رسالة منك”، إلخ.
في ظني، فإن قراءة تجربة “الوداع في مثلث صغير” خارج تساؤلها عن الشعر نفسه، يخصم الكثير من أفقها. ليست القصيدة هذه المرة إيهاماً فقط، بل ثمة جانب من تعريتها، التساؤل حول جوهرها، ثمة السؤال عن ماهية الشعر، دوره، جدواه. “هل أنت كائن حي؟”، هذه هي العبارة الأولى في نص “أسئلة إلى الشعر”، بكل ما فيه من حمولات نظرية، وهو النص المتصل في كتلةٍ سائلة بسطورٍ متصلة غير موزعة على فضاء الصفحة، لتصبح القصيدة التي تتساءل عن الشعر بالذات مصبوبة في قالب لا يوحي طباعياً بقصيدة!
الشاعر يملك سؤال الناقد، والتغريب قائم فيما ينزاح ذلك الحائط ليحل الشاعر نفسه محل القناع التقليدي الذي ندعوه بالذات الشاعرة.. والقصيدة يحق لها أن تكون موضوعاً لنفسها، وسؤالاً داخل النص الشعري.
وإذا كانت اللغة مقايضةٌ بغرضٍ دنيوي استعمالي هو تبادل المعنى، فإن الذات الشاعرة تجعل منها مقايضةً مع الإله مستبدلةً الوظيفة الاستعمالية للمقايضة بنظيرتها الجمالية التي تساوي الوجود نفسه: “كنتُ أصرخ في الليل/ مخاطباً الإله:/ مقابل كل ألم كبير امنحني قصيدة/ مقابل كل حبيبةٍ ذهبت امنحني كتاباً،/ مقابل كل نظرة كسيرة بيتاً من الشعر،/ وفي مقابل شرور البشر امنحني ليلةً كاملة/ أكتب فيها ثم أنام في الخامسة صباحاً/ ناسياً شرورهم”.
بل إن الموت يترى كنبوءة متصلة بالقصيدة النهائية حين تفقد كلماتها: “سأموت مباشرة بعد أن أقرأ قصيدة واحدة”، سأتركها تفلت من بين أصابعي،/ سأدع حروفها تغيم حرفاً وراء آخر/ حتى لا تصبح قصيدة في النهاية/ وساعتها سأغمض عيني عليها نهائياً.”
**العبور
بين الاستشراف والاسترجاع تتحقق حركة إعادة تشييد العالم شعرياً، وبالذات فيما يخص “أحلام اليقظة”، هذا العنصر الجوهري للغاية في هذه التجربة، والذي يعانق مشهد الواقع تارة ويزاحمه تارة حد ابتلاعه بالكامل في عددٍ ليس بالقليل من القصائد.
بلا هوادة، تتساءل الذات عن إمكانية العبور، المستحيلة، من غرفة التورط في الخبرة إلى غرفة هذه الخبرة وقد صارت متلفظاً، نصاً، خطاباً. ثمة قصيدة تستمع فيها الذات لحياةٍ كاملة عبر سماعة التليفون، وتنتهي بالذات وقد صارت جزءاً عضوياً من المشهد الذي يصلها مختزلاً في كلماته. إنه تمثيلٌ هائل لأمنية حارقة، تطفو بالكثير من نصوص المجموعة من خانة الواقع إلى حلم اليقظة. وهي في تقديري خصيصةٌ مهيمنة في هذا الكتاب الشعري، فثمة دائماً ذلك التداخل بين مشهديةٍ تلتقط الخارجي بالتماهي مع مشهديةٍ تجسد المتخيّل، قبل أن تطرحه نحو الخارج.
“العبور”: إنه مفتاح مهم في تقديري لقراءة “الوداع في مثلث صغير”. ثمة دائماً جسد في برزخ، ثمة دائماً ذلك الخطو الوشيك بين مكانين، أو زمنين، أو عالمين، حيث “يختفي الوحش وغابة الأشجار والماضي/ ثم يختفي الثور والعالم من فوقه/ ثم يختفي الكلام والصمت/ ثم يختفي الشرق والغرب”. فقط بزوال الحدود، بانتفاء الخرائط، قد تُدرك الذات نفسها في مطلق العالم.
خطوة واحدة تكفي ليتحقق العبور. خطوةٌ واحدة لتصبح الحياةُ قصيدةً، واليقظةُ مناماً، والبيتُ مقبرة، والخطوةُ العرجاء على الأرض جناحاً للأعالي.