يوسف رخا
في مجموعته الجديدة “الوداع في مثلث صغير” (صدرتْ أواخر فبراير في طبعتين متزامنتين عن دار ميريت في القاهرة ومنشورات المتوسط في إيطاليا)، يرجع الشاعر أحمد يماني إلى موضوع الحب. ولم تكن آخر إصداراته – مجموعة قصائد “منتصف الحجرات” (٢٠١٣) – إلا توثيقاً لما يسميه “رحلة علاقة” أو غرام سعى إلى فهم العالم من خلاله. كان تركيزه في تلك الرحلة على شخصه وشخص الحبيبة ليس إلا. وباستثناء قسم صغير عن موت صديقه الشاعر أسامة الدناصوري (١٩٦٠-٢٠٠٧)، لم يكن معنيّاً بتفاصيل كثيرة خارج المراوحات والمشاحنات التي تجعل شخصين كياناً واحداً.
هذه المرة، وبعد ثمانيْ سنوات، لا يَكتب يماني عن الحُب كتجربة مَعيشة بقدر ما يحوّله إلى ما يشبه مجالاً جوياً يحتوي جوانب متعددة من الواقع كما يراه – السفر والحنين إلى الديار، مزالِق الجسد وتقدّم العُمر، السأم وأكل العيش، خِبرة الفَقْد والمجهول، وأشخاص كثيرين تتقاطع حياته مع تجاربهم المتباينة – تقابل تلك الجوانب أساليب متنوعة في صوغ القصيدة تتراوح بين التصريح التقريري شديد المباشرة والإشارة المبطّنة المترعة بالمجازات. وكثيراً ما تجتمع ضروب متباينة للكتابة في نص واحد طويل.
وسط إشارات إلى الهِجرة وموت الأب، تستدعي قصيدة “مُعاملة الليل” مثلاً غراماً اقتُلع جِذره في الحياة قبل عشر سنين، لكنه ما زال يُثمر في الرأس. قد يتماهى القارئ مع مقطع أو أكثر، لكنه سرعان ما سوف يجد أنه يقرأ عن ذلك الغرام ليس فقط في سياق أوسع من علاقة شخصين ولكن أيضاً عبر إشارات وتفاصيل أبعد من قضية الحب ذاتها:
في الضحكات أولا، ضحكات كثيرة ثم انقلاب الوجه ساعةَ الوَداع. لم يكنِ الحب إلا هذا: وجهُك الباسم يَنقلب. لحظةُ الأبديّة في تلك الانتقالة غير المرئيّة، لحظةٌ أراها وحدي وأنتِ تتأهّبين لتقبيلي قبل أن تذهبي. في مرة أخرى ذهبتُ أنا واختفتِ الضحكات وانقلابُ الوجه الباسم.
إنك تمشين كما يمشي الهواء على خدّك وكما تنفجر النار في نارك وكما يتهادى الماء نِقاطَ عرقٍ أسفلَ ظهرك وكما يهبّ التراب خفيفا وملتصقا في جبهتك. هكذا التصقتُ أنا بك، وهكذا نظرتك الأولى التي صاحبتْها انفراجة فم انغلقت سريعاً.
هنا تربط الموت بالحب بل وبالوعي كله كلمة “الأبدية”، وهي فكرة تبدو غريبة على شعر التسعينيات المصري الذي يعد يماني أحد مؤسسيه إلا أنها تتماهى مع الصور والحركات لتعكس ما يصفه الشاعر بأنه نظرة أكثر هدوءاً وحباً إلى العالم، نظرة أنعم بها عليه التقدم في السن وتراكم الخبرات. لا يعترف الشاعر بأي انحياز نفساني أو همّ فلسفي، لكنه يقول إنه بات “أكثر تأملا في الحياة والعلاقات الإنسانية”.
فرغم أن يماني (مواليد ١٩٧٠) لا يتخلّى عن بساطة الأداء واللغة العارية التي وظّفها ببراعة عبر خمسِ مجموعات سابقة – “شوارع الأبيض والأسود” (١٩٩٥)، “تحت شجرة العائلة” (١٩٩٨)، “وردات في الرأس” (٢٠٠١)، “أماكن خاطئة” (٢٠٠٨)، ثم “منتصف الحجرات” – في هذا الكتاب هناك شعور بأنه يولي الأسئلة الكبرى اهتماماً غير مسبوق منذ طَلَع على العالم بقصائده الأولى الصادمة بدايةَ التسعينيات. هنا كلام عن الأبدية والقَدَر والإله، بل وعن “عين العين”، تلك التي يتساءل المتكلم في قصيدة “نُسَخ كثيرة” إن كانت هي التي يَنظر بها طالما لا ينظر لا بعين الألم والغضب ولا بعين الرضا والامتنان.
يقول يماني إنه لم يكن معنياً لا بالإنتاجية ولا الجودة وهو ينجز هذه المجموعة على مدى زمني طويل، وإنه استلهم في تقشفه وإقلاله تجربة شاعرين من شعراء اللغة الإسبانية كان يترجم لهما أعمالاً في الفترة ذاتها. الأول هو البيروفي ثيسار باييخو (١٨٩٢-١٩٣٨) الذي لم يُنجز في حياته القصيرة (ستة وأربعين عاماً) سوى خمسة مجموعات نشر منها ثلاثة. إلا أنه أصبح أحد أعظم شعراء اللغة الإسبانية على الإطلاق. فليس الموضوع كما يقول يماني في “مراكمة الدواوين”، ولا في أن يشغل الشاعر نفسه بإصدار كتاب جديد.
أما الشاعر الثاني فهو المكسيكي خوسيه إيمليو باتشيكو (١٩٣٩-٢٠١٤)، وقد ترجم يماني قصيدته “الدفاع عن المجهولية” حيث ينفي أهمية الذات الكاتبة في علاقتها بالعالم فغيرت فكرته عن نشر الشعر كما يقول. يكتب باتشيكو في عربية يماني:
لا أعرِف لماذا نَكتُب
وأحياناً أتساءل لماذا نَنشر بعد ذلك ما كتبناه
أي إنّنا نُلقي بزجاجة في البَحر المكتظّ والمّليء بقمامة
وبزُجاجات داخلّها رسائل
لن نعرِف أبداً
لمَن وإلى أين سوف يُلقي بها المدّ والجَزر
الأغلبُ
أنها ستَستَسلم للعاصفة وللهاوية
في رَملِ الأعماق الذي هو الموْت
ورغم ذلك
فإن تكشيرة الغريق الساخرة هذه
ليستْ بلا جدوى…
صحيح أن الشاعر المصري المقيم في مدريد منذ ٢٠٠١ ما زال يجعل من النثر المرسَل الخالي من النغم سبيله شبه المستحيل إلى غنائية نافذة، لعلّ طَرَبها – هذه الغنائية – يفوق طرب سواها مما يرنّ ويُبهر. لكنّه في هذه المجموعة لا يَقصِر الغِناء على ثنائية “الحياة اليومية والجسد” – الكليشيه المقترن بـ”جيل التسعينات” المصري الذي ينتمي إليه تاريخياً على الأقل – بل يَسبُر اليوميّ والجسديّ وسواهُما من أجل النَفاذ إلى فَضاءات ليس من المُبالغة أن تُسمّى روحية. يكتب عن الوَحدة في “الأجساد الناقصة”:
في ذلك الكون الذي رأيتُ نفسي فيه مُنقسما إلى أجساد أخرى غير إنسانية، أجسادٍ كانتْ في طريقها للتكوُّن يوماً ما لكنّ شيئا ما أعادها دون اكتمال. لسنوات طويلة كنت أنا تلك الأجسادَ الناقصة المعلّقة في الفراغ، كنتُ شيئاً آخرَ غير الأيدي والأقدام، كنتُ ما كنتُه من نِسيان الطبيعة.
وفي حوار سقراطي مع النفس هو قوام “الإهانة”، يتراءى الخِذلان في البشر أو سوء معاملتهم درساً في ما يشبه المنهج الأخلاقي لقديس شوارع من النوع الذي يصفه الشِعر:
لكنك كبِرت وشاب شَعرك
وماذا يمكن أن أفعل؟
أنْ أحمل سكّينا؟ أن أقتُل الجميع؟
أنا أحب الجميع ولا أريد لأحدٍ أن ينجرح
لكنهم يجرحونك بل البعض يدمّرك عمدًا.
لكنْ من قال إني أتدمر.
إذا كان القدر بجَبَروت نهائيّ قد أراد هذا
فقد أراد أيضا منحي القُوة.
لكن ألا تغضب؟ ألم تَوَدّ قَدَرا آخر؟
كل قدرٍ حاملُ ألم …
لكنك لا تزال تتألم وإلا فلِمَ تقول هذا؟
فقط لأُبرهن أن الأمرَ أكبر من الجميع.
لكن سيكون الأمر ألطف لو كفّوا ألسنتهم ورؤوسهم قليلا عني.
لم يبقَ الكثير وهذا عَظيم.
سينكشف كل شيءٍ وسأكون هناك
في حياةٍ حقيقة
ومنذ الآنَ أرى كل شيء والاعتذاراتُ لن تكون ذات بال
فقد غَفَرت للجميع
هنا وللأبد.
إن الشاعر الذي اتُهم وزمرته بالعدمية وإسقاط الغاية بات يسأل عن معنى الحياة ودور الشِعر في فكّ شَفراتها. يكتب عن عاشق كَسَروا له قلبَه إنه “صوفي أخرس”. وفي “الدراجة” يُحوّل بُقعة جغرافية اعتيادية إلى محطّة فضاء تربط الدنيا بالآخرة:
هنا تحدث معجزاتٌ يومية على يد قديسين لم يوجدوا أبداً
هنا يُمكن للواحد أن يبكي بعد أن يُمارس الجنس كبهيمة
بعد أن يُمارسَه كفراشة أو سَمَكة.
هنا تبدأ الحياة ولا تنتهي
وأمام بائعة الذُرة الصفراءِ قلوبٌ مشويّة لكنّها لا تريد أن تراها.
كذلك في قصيدة “عصافير” يتضح أن السبب في بقاء المهاجر في البلد الذي هاجر إليه ليس قراراً واعياً ولا ظرفاً حياتياً:
رجل أصبَحَ عجوزاً فجأة
لا يعود إلى مَسقَط رأسه
كلمّا هَمّ بالعودة تَخرُج عصافيرُ ملونةٌ من مكان قريبٍ وتحتلّ الغرفة …
القَدَر العظيم يضرِب غُرفة صغيرة
القدر العظيم يُصيب طائراً مختنِقاً ورَجلا عجوزا
القدر العظيم يستريح في تلك اللحظة القصيرة لاتخاذ القرار.
يكتب يماني كدهريٍّ من القرن العاشر، إلا أنه يكتب بروح متصوف من المستقبل. يسأل الشِعر عن الهيئة التي يبدو عليها، “هيئة القاتل الملائكي وهو يستعد لقبض الأرواح وإطلاقها في عالم لا نعرفه قد لا تكون فيه أنت عظيما بل مجرد رنة خشنة لأقدام أرواح تحتضر بلا انقطاع في السلام السماوي.” وبينما يستدعي “الحي الغريب” حيث نشأ في القاهرة، “خمسة شوارع بين طريق الأهرام والترعة الكبيرة كانت أكثر من كافية ليصاب رأسي بكل أنواع الهذيان”، يتذكر “تلك الضحكة” (كاملةً):
أحكمتُ قبضتي على تلك الضَحكة التي صاحبتْني طويلا، ما كان يُمكنني التحكّم بها، إذ كانت روحي منطلقة، رغم الآلام، وكانت الضحكة هي التجسيد العمليّ لروحي القابِلة كلَّ صورة. في البداية كانت الضحكة لطيفة إذ تكشف عن أريحيّة وعن غُفران ولكنها سرعان ما بدأت تتحجّر وتحْرَن أن تخرج. أردت أن أختبر قبضتي عليها منذ أيام، لكنها كانت أذكى من يدي، لقد اختفت مرة واحدة، طارت في الهواء لتلحق بالضحكات والأصوات التي تحيط بِنا في الأعالي على بُعد أمتار قليلةٍ من رؤوسنا. أسماها البعض ضحكة الغريب، أنا لم أسمِها، أنا لستُ غريبا، الغرباء سعداءُ وأنا لست غريبا.
هكذا “الوداع” فعلاً، وكل وداعات الشعر المحتملة: كيان هندسي سحري – كما يشير شريف الشافعي في قراءته للديوان – يركّب الخبرات بعضها على بعض في تكوين تكعيبي لا يكف عن الحركة ومزاوجة وجهات النظر ومن ثم توليد المشاعر قبل المعاني. وكما أن العشق لدى الصوفيين هو جوهر الوجود، يقوم الغرام هنا بدور المحرك الذي لولاه ما انكشفت الصلة بين العيش والكتابة في استشراف ليس فقط معنى الحياة ولكن أيضاً إرادة الكون.
كان الوداع قبلة، قبلتين، عشرات القبلات
لكنه كان عناقا، كان تشبثا ورفضا،
كان قطع اللحم الصغيرة المتناثرة بعد انتهاء العناق…
الوداع كان عتبة بيت ومحطة قطار
كان طائرة تقلع عموديًا وتختفي
كان السحاب الذي تشقه الطائرة وكان الطيور…
وكان توقفا عن كل حركة
كان إصبعًا مكسورة
يدًا دون أصابع
وجسدا لم يوجد إلا ليختفي.
كان الوداع سقف بيت بحوائط قصيرة
لا تزال تهبط حتى تصل إلى الأرض…
كان وداعا للنفس الذاهبة إلى العظام البيضاء،
وداعا للجسد الملتهب.
كان الوداع وداعا لنفسه،
وكان وداعا.