طارق عبد الفتاح
I
وراء الباب
وراء الباب نقف، أنا وأنتِ،
الباب الخشبي العتيق يفتح على ممر طويل في نهايته غرفة مغلقة،
لا نريد أن ندخل الغرفة ولا أن نعبر الممر،
نريد فقط أن نطرق الباب،
مرة أنت بالداخل ومرة أنا.
أطرق الباب ولا تفتحينه ولا تسألين من الطارق،
ثم تطرقينه أنت ولا أفتحه ولا أسأل من الطارق.
في هذه الأثناء القصيرة كنا قد “عبرنا بحرا وقف الآخرون بساحله
نحن فى منتصف حجرات أحمد اليمانى، هذا الشاعر المسكون بالرعب والعزلة والوحشة ، يقدم لنا عذاباته السيزيفية النازفة، فالكارثة أننا نقف فى منتصف الحجرات عاجزين عن الوصول لبر أو كف، أو تواصل حقيقى، وفى رحلتنا للوصول نتخبط فى ظلام كونى محيط، وتتأذى وتنجرح أجسادنا وننزف لنستلقى على أسرة مع شركاء غرباء عنا وعن أنفسهم ويتساقط الدم، يبدأ ديوانه النثرى بإفتتاحية وراء الباب، التى تشى بعجز التلاقى وإستحالته ثم تسيطر على الديوان رؤية كابوسية مرعبة بمسحة عبثية مؤلمة، فكل الطرق تفضى للفناء، والموت طائر يحلق.. وتأمل مفردات اليمانى وحدها كافية لفك أحجية رؤيته للكون ( الباب – الموت – الأسلاك – الأسلحة – الجراء – الديدان – الشجرة – الموت–عصفور – عنكبوت – أفعى الشك – الخوف_ الدجاجات الميتة تحت الجلد – أموت من حبك– وحش مفترس ،الأحلام التى تتحول لكوابيس …لنتأمل مثلا جملة ( الحياة صندوق أحذية) (والمدن قاتلة ) -أفعى الشك – أقدام تغوص فى الأوحال – فى بلاد أظنها بلادى …أرأيت أحدي حقق أحلامه فى هذه المدينة! – والمدينة لا تمنحنا شيئا– جبل متصدع .)
فى قصيدة وراء الباب لا يستطيع الطرفان الوصول لبعضهما ابدا، هل (أمام الباب ) لفلوفجانج بورشرت لها علاقة بالأمر ؟
(فالنهاية عند اليمانى تبقى منتظرة كوحش مفترس سواء مقبرة أو قاع نهر، والنهر يتكرر كثيرا فى ديوانه، بينما يلفظ النهر جسد الشاب الصغير ضحية الحرب ساخرا من إنتحاره فهو أصغر من أن ينتحر لدى بورشرت ولكن فتاة اليمانى الصغيرة تنتحر بالقاء نفسها من الشرفة، هو ديوان عن الألم الإنسانى الذى لا يرحم صغيرا أو كبيرا، وعن سيطرة الموت التى تحيل حياة العصافير باهتة بلا معنى.. نحن نفشل فى الحب وفى التواصل وفى إيجاد أطواق نجاة لحيواتنا البائسة، فحتى القبلات ما هى الإ مقدمة موسيقية للفناء، وأن أرتدى زى الحب ( أموت فى حبك ). ولنتأمل حالة العجز الشاملة التى يقدمها شاعرنا بأسى وكرب (( هى على يمين الطريق وأنا على يساره وعربة الطفل تمضى وحيدة ولا أحد يفكر فى إنتشال الأخر )).. يالها من صورة أراها أكثر وحشية ورعبا من كل الديدان والدجاجات الميتة والدم النازف والكوابيس الأخرى.. قل عن العجز ما تريد وقل عن الطفل كرمز للمستقبل أو البراءة التى تمضى وحيدة لتلقى مصيرا مجهولا مخيفا ما تشاء، وقل عن المجتمع وعن الكل ما ترغب فلا أحد يفكر مجرد التفكير فى إنتشال الأخر؟ ولكن مما ينتشله؟ من أزمته ومأزقه الوجودى! حتى الحلم بالموت فى صحن الهرم الأكبر تضن الأقدار به وتسقط الطفلة من الشرفة ميتة!
إن قضية الشاعر هى هذه الغربة عن الذات والوحدة والعزلة التى تفصلنا عن أنفسنا وعن الأخر، والبلاد التى أعتقد أنها بلاده والأجساد التى ظن انها جزء منه، والشجرة التى ظل يسقيها ولكنها تذبل وتصفر وتموت.. وعن كابوسية وكارثة الوقوف أو الوجود أو التجمد فى منتصف الأشياء والمسافات، هو ديوان مخيف كابوسى عبثى فلسفى، ولكنه إنساني لأقصى درجة فهو مرثية لحياتنا البائسة ولعزلتنا الإختيارية الجبرية القدرية، وهى مواجهة صريحة مع أكاذيب كبيرة أدمنناها وصرنا بدونها أو بها مجانين أو مرضى، مثل أكذوبة الحب والتواصل الإنسانى وأكذوبة الأمل، وأكذوبة المدنية والحضارة ،أكاذيب كثيرة قرر يمانى التصدى لها بشجاعة والتعبير عنها بكل عرى وصدق، فصدم الديوان القراء لكن الواقع المعاش أشد كابوسية وعبثية ورعبا مما كتبه شاعرنا المرهف الذى حرص على صدق مكتمل، وكثافة بلاغية شعرية، ولوحات تشكيلية قاتمة، قدم رؤيته عن الواقع دون أى رتوش، فى ديوانه المبدع منتصف الحجرات .
ولنتأمل هذه القطعة الموسيقية المؤلمة أيضا:
عندما تحاول في منتصف حجرة أن تترنم بأغنية بعيدة، أن تنفخ النغمة لتطير إليها لكن الوهن لا يدفعها أكثر من سنتيمترات خارج الحجرة، أن تلضم جسرا من الكلمات تنطلق بقوتها الذاتية لتصل إلى شباكها فتسقط في منتصف الطريق، فكر أنك في منتصف حجرة وأنه ليس عليك أن تترنم أو تلضم أي شيء، فأنت في منتصف حجرة وفي منتصف الحجرات ليس على المرء سوى أن يتمدد واضعا طوبة تحت رأسه وفي ملابسه البيضاء المشدودة بإحكام على عظامه يمكنه بالكاد أن ينسى.