يرى العالم أخضر

أحمد يمانى الخارج توا من غرفة التدريب
ديسمبر 14, 2017
فل عليك يا صاحبي!
ديسمبر 14, 2017

سيد محمود

فوجئت وأنا أكتب هذه السطور أنني لم أنشر أي شيء عن  كتابات  أصدقائي الذين كونوا نواة شلتنا في كلية الآداب، جامعة القاهرة بين نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وأوائل التسعينيات.

لم أكتب إلى الآن عن أعمال ياسر عبد اللطيف أو أحمد يماني أو محمد متولي وهدى حسين وحمدي الجزار  على الرغم من تميزها  ونجاحها في  لفت الانظار لحساسية أدبية  جديدة كانت تتشكل في تلك السنوات.

صعقتني المفاجأة وزاد منها أنني لم اكتب أيضاً عن أعمال إيمان مرسال أو ياسر الزيات وفاطمة قنديل  وعصام ابو زيد وعلية عبد السلام وإبراهيم عبد الفتاح وجرجس شكري.

لا يعني ذلك أنني فكرت في تلك النصوص بشيء من الموضوعية، بحيث لم أتورط في إصدار أحكام بشأنها لعلاقتي بأصحابها وإنما الأمر كما يبدو لي الآن يتعلق بشعوري بأن كل هذه الأسماء تحتل عندي مكانة لا علاقة لها بالكتابة.

فواقع الحال أن صداقتي بهؤلاء  نشأت حول الكتابة وبمعزل عنها  في آن، ولذلك حين يصدرون كتباً جديدة  أكتب لهم  تعليقات نتبادل الرأي فيها  عبر رسائل  أو أحاديث مباشرة، فيها الكثير الذي لا يعني القارىء، لأنه يبدأ بالكتابة ويننتهي إلى الصداقة.

لكن لماذا تذكرت ذلك الآن؟

الأمر لا ينفصل عن أحمد يماني الذي يمكن اعتباره  الخطوة التي أهدت لي كل هؤلاء، فباستثناء ياسر عبد اللطيف الذي تعرفت عليه في الجامعة  قبل أحمد يماني  بأسابيع قليلة، تعرفت على هؤلاء عبر يماني الذي كان ولا يزال أشبه ما يكون بشرفة تطل على عالم كبير أو قل أنه شجرة لا تمر عليها إلا  وتعطيك الظل والثمر.

تعرفت على  يماني في جلسة من جلسات جماعة الشعر بالكلية، وكنت أكبر منه بعام واحد وكانت معي أمل فرح التي تكبرني أيضاً بعام،  ولم نكن قد تصادقنا بعد لكننا تشاركنا  في رفض الشعر الذي كانت مشرفة الجماعة الشاعرة زينب ابو النجا  ترغب في تعميمه كوصفة صالحة لشعر تقرأه في ندوة بالجامعة ثم تنساه،  فقد كان طموحها الجلوس على منصة إلى جوار فاروق شوشة وفاروق جويدة ومحمد ابراهيم ابو سنة  وليس أكثر.

ولأننا عبرنا عن رفضنا بوضوح لهذه الوصفة، فقد كان من الطبيعي أن نكمل نقاشنا بعد الجلسة في ممرات الكلية.

كان يماني آنذاك طالباً في العام الأول  بقسم اللغة العربية، وكان مولعاً بالشعر العمودي ويكتبه باعتزاز غير راغب في التخلي عنه، بل كان يعتبرالتفريط فيه جريمه لا تغتفر، في حين كانت أمل فرح قد عبرت هذه اللحظة وتصر على كتابة شعر بالعامية المصرية يمزج بين الحس الانثوي الخجول والروح الجنوبية المتمردة، بينما كنت لا أزال مرتبكا في بناء انحيازات إزاء شكل القصيدة التي ارغب في كتابتها وفي رأسي الكثير من الافكار التي كانت بحاجة إلى ترتيب، وكان ياسر عبد اللطيف من دون أن يدري يعين على ذلك بفضل ثقافته الواسعة كقارئ مدرب في عائلة يحتل فيها الكتاب المكان اللائق به.

في اليوم التالي لتعارفنا أخذت يماني ليتعرف على ياسر كما أخذته الى أصدقائي في كلية الحقوق وهم  محمد عبد العاطي ومحمود علي وسعيد عبد الحافظ الذي لا يزال الراوي الاول لحكايات يماني السرية، كما يعتبر نفسه الحارس الأمين على شعره منذ أن افسدنا رأسه بالكلام عن الحداثة الشعري، ثم فوجئنا بعد أسابيع بكلام “عما بعد الحداثة ” وهو الآن يصف نفسه “ناشط حقوقي وناقد شعر حداثي”.

وفي تلك الايام كان من السهل التقاط روح القلق الشعري التي تملأ يماني  وكان بيت المتنبي الشهير “على قلق كأن الريح تحتي/ أُوَجّهُها جَنُوباً أوْ شَمَالاً “بيته المفضل  الذي لا يفارقه، يكتبه على كتبه الجامعية  قبل أن يحكي عن رغبته في مقاومة ركود الدراسة ونظرتها البيروقراطية للشعر.

حلم مبكرا  بالتحاور مع نصوص أخرى لم يكن لها مكان في الكلية، لذلك سعى إليها خارج أسوار الجامعة وأخذنا معه إلى أتيليه القاهرة ومقهى زهرة البستان ولجلسات شعراء السبعينيات، كان السهم الذي يصعد باتجاه الضوء.

 ذات شتاء  جاء  بشاعر آخر من نفس الكلية هو محمد متولي الذي كانت يكتب بمخيلة تختلف تماما عن مخيلتنا، كانت قصيدته الفذة أقرب لوعد لم نكن قد بلغناه، وفي مرة تالية جاء يماني بنصوص شاعر آخر هو عصام أبو زيد وطلب منا الذهاب لكلية الإعلام لنستمع لشعره في أمسية أعلن يماني بعدها أنه سيحرق قصائده كلها، لأن ما كان يكتبه لم يعد يرضيه.

كانت قصائده التفعيليه الاولى مثل “السيدة البيضاء ” تكشف عن نبرة تغاير النبرات التي تشيع عادة في كتابات طلاب الجامعة، لم تكن مرتبكة أو تحاصر نفسها في الأغراض الغرامية ذات الظلال الفج أو تعيش على نسخ النموذج السبعيني، كانت قصيدة معتدة بذات صاحبها الذي بدا كأنه يؤرخ لشيء لم نتبينه تماما، لكنه يخصه ويميزه، انطلاقا من ذاكرة  مثقوبة بالألم.

في تلك الليلة التي قضيناها في بيته الحميم  بـ”الطالبية”  ظل واقفاً  الى جوار موقد أعده لحرق أشعاره يشرح أهمية أن نحرق المراحل في الكتابة، كنا  قد عبرنا نصوص صلاح عبد الصبور،  أمل دنقل ، ومحمود درويش وأدونيس  وتصادقنا مع شعراء السبعينيات وعرفنا حلمي سالم على فاطمة قنديل وناقشنا أدونيس في بيت حسن طلب، وجاءت ايمان مرسال لتكمل دراساتها العليا إلى جوارنا ثم  جاء الراحل اسامة الديناصوري ليسكن قرب بيت يماني  وبقي يحدثنا عما يجري في الاسكندرية، عن مهاب نصر وعلاء خالد وعن جماعة (الاربعائيون وضرورة التفكير في كتابة عابرة للاشكال ، ليست مثل كتابات إداوار الخراط، لكنها مأخوذة  من سوق الحياة.

ظلت النقاشات حامية  إلى أن وقعنا على كنز آخر هو أنسي الحاج الذي هز الكثير من القناعات التي كانت تحكمنا عن الشعر، وحين قرأ يماني الشاعر العراقي سركون بولص وطلب منا أن نقرأه ثم دعانا للتعرف على الشاعر والناقد كاظم جهاد كان قد اقتنع تماما بضرورة الخلاص من الوصفات القديمة، لذلك لم يقنع بفكرة حصره في جماعات أو مجلات  سعت للعب دور أبوي على نصوصنا  وفضل الانحياز لمشروعات أكثر هامشية.

وفي مقابل  التحرر من قيود هذه الالتزامات اجتهد في خلق وصفة أظنه قد بلغها الآن، أرى يماني ك “خميرة قلق” ينشغل دائما بالابتكار، ومع ذلك هو أيضا اكثرنا تسامحاً، فالطفل الذي بداخله لم يكبر أبدا، يتحدث بصوت عال ويضحك  من قلبه حتى يقول لك مازحا : “قلبي هيقف يا ابن الكلب”وحين يغضبك يبكي قبلك، ولما يفرح بك يحتضنك كأنه يغلق قفص صدرك على كنز.

في الغربة التي تأكل القلب كتب ديوانه “أماكن خاطئة” ليرمم  شعوره بالحنين، وفي هذه الايام يضع صوراً على الفيس بوك تظهر الأناقة التي تلازمه، وينتظر التعليقات التي اعتاد عليها من الأصدقاء القدامى.

يريد “يمش” أن يطمئن أن المسافة  التي  أبعدته أضفت عليه وسامة وأن نبرته في التعليق ما تزال حارقة، مولعة بالاشتباك الخفيف، يحب  أن يسترد صوته وهو ينادي علينا من مؤخرة الأتوبيس ويطلب من صديقته أن تجري أسرع لتلحق بينا.

 يكمل في كل زيارة لمصر حديثه  الذي توقف منذ عشر سنوات كأن اتصالا تليفونياً انقطع بينكما في التو، وظل الحديث  نديا لا لشيء سوى أن قلبه اعتاد أن يرى العالم أخضر .