أحمد يماني: قصيدة النثر ليست شكلاً شعرياً.. إنها نوعٌ أدبي مستقل

حوار مع يماني لمدونة بيروت 39
ديسمبر 14, 2017
أحمد يماني: الشاعر ناسخ والتواضع ينبغي أن يتجذر في بنيته
ديسمبر 14, 2017

حاوره: حسين بن حمزة

هو أحد أبرز شعراء التسعينات في مصر. بدأت تجربته بديوان أول سمَّاه “شوارع الأبيض والأسود” عام 1995، وتزامن ذلك مع بدايات “الانفجار” الذي شهده المشهد الشعري المصري، حيث ظهرت أسماء عديدة تميل إلى شعرية النثر وركاكة الحياة اليومية وتفاصيلها الشخصية والعابرة. ورغم أن البعض وجد أسلافاً لبنانيين وسوريين للموجة الجديدة، إلاّ أن ذلك لم يمنع شعراء هذه الموجة من تحويل ذلك إلى إنجازات خاصة، وترسيخ أصواتهم وحساسياتهم وتسجيل افتراقهم الجوهري عن تقاليد وممارسات من سبقهم وخصوصاً شعراء التفعيلة والايقاع

 داخل هذا السياق، يكتب أحمد يماني قصيدة نثر تستثمر السرد ولكن بشروط، وتستثمر السيرة الذاتية ولكن بتعديلات تخييلية، وتأخذ مفرداتها وصورها من معجم الواقع والحياة اليومية ولكن وفق انضباط أسلوبي محدد.

“الرأي” سألت أحمد يماني الذي اختُير ضمن 39 كاتباً سيشاركون في مهرجان “بيروت 39″، وسألته عن تجربته الشعرية وخصوصية المشهد الشعري الراهن في مصر:

لنبدأ بسؤال تقليدي عن البدايات والمؤثرات الأولى. لماذا الشعر؟

– البدايات العادية حيث الشغف بالقراءة منذ سن مبكرة، القراءات الطفلية من مجلات وكتب مغامرات وغيرها، والانتقال على أعتاب المراهقة إلى قراءة أكثر توسعا بشكل ما، ثم الانجذاب إلى الشعر خصوصا ثم محاولة كتابته إلخ. سيرة عادية قد تفضي إلى الشعر أو السرد أو قد لا تفضي إلى أي مكان. كان علي أن أتعلم علم العروض بمفردي وأنا في المدرسة الثانوية بعدما نبهني أستاذ اللغة العربية أن ما أكتبه ليس شعرا، هكذا بدأت أتعلم الأوزان بمفردي حتى تمكنت من فك شيفرتها العصية علي آنذاك. في الجامعة وفي السنة الأولى تخليت عن الشعر العمودي وبدأت أكتب قصائد تفعيلية لفترة قليلة وسرعان ما هجرتها وبدأت أكتب دون وزن.

ظهر اسمك أوائل التسعينات مع مجموعة أسماء حققت لاحقاً حضوراً متمايزاً في المشهد الشعري والثقافي .. أتحدث هنا عن: ياسر عبد اللطيف، هيثم الورداني، ومحمد متولي وهدى حسين…هل تنتمي إلى جيل أو حساسية إبداعية جماعية؟

أعتقد أن ما جمعني بهؤلاء الأصدقاء، ولا يزال يجمعني ببعضهم، أعني ياسر وهيثم تحديدا فيمن ذكرت، هي حساسية حياتية وجمالية، لا شك أن الكتابة كانت سبب تعارفنا، ولكنني أقصد أنه كانت هناك حساسية حياتية عموما تجاه أفكار ومواقف وأشخاص وحياة بكاملها كنا نحاول تلمسها متسندين على بعضنا البعض رغم المشاحنات والتوترات فيما بيننا. أتت لحظة بعد ذلك أراد كل واحد أن يتلمس طريقه بمفرده وكان طبيعيا أن تأتي هذه اللحظة وكان هناك شعراء وكتاب آخرون من جيلنا ومن أجيال أخرى قد نموا في أجواء أخرى، لكن بلا شك كان ثمة تقارب ونقاط التقاء ليست بالقليلة. لا أعتقد أنه يوجد ما يسمى الآن بجيل التسعينات، ثمة أفراد فقط.

الذات حاضرة دوماً في تجارب الشعراء. إلى أي حد استثمرت سيرتك الشخصية في تجربتك. كيف يحضر الشاعر بدون أن يثقل حضوره النص الشعري؟

أعتقد أن فكرة الكتابة عن الذات أو استثمار السيرة الذاتية تم التعامل معها بشكل مبالغ فيه للغاية ومن هنا جاءت المحاكمات الأخلاقية لاعتقاد البعض أن ثمة اعترافات تخص حياة الكاتب، بينما الأمر، بشكل بسيط ، يخص أكثر فكرة الخيال وهو ما لم ينتبه له الكثيرون؛ علاء خالد مثلا اخترع أختاً سرية له في ديوانه الثاني. إذن ما حدود ما هو واقعي وما هو متخيل؟ عندما تذكر كلمة الأب أو الأم أو الجسد تذهب الأغلبية إلى تلقي الأمر بوصفه “تدويناً” وليس كتابة لها مطلق الحرية في البناء والتخييل.

ما الذي تغير بين مجموعتك الأولى “شوارع الأبيض والأسود” الصادرة عام 1995، ومجموعتك الرابعة “أماكن خاطئة” التي صدرت هذا العام؟ هل ترى أن تجربتك عاشت نقلاتٍ أو منعطفات أم أنها تطورت بطريقة تراكمية؟

ربما جرت مياه كثيرة تحت الجسور منذ مجموعتي الأولى الصادرة عام 1995، على كل مستويات حياتي الشعورية والفكرية، لكن يمكنني القول إنه لم تكن ثمة منعطفات كبرى، هناك تغير ما من كتاب إلى آخر ولا يخص الأمر فكرة التطور بل فقط التغير تماشيا مع الحياة نفسها. رأى الكثير من الأصدقاء أن كتابي الأخير “أماكن خاطئة” يمثل نقلة نوعية في مجمل كتابتي، وأعتقد أنني أتفق معهم. أعرف بالطبع أن مجرد الإقامة في بلد آخر ليس ضمانا لنقل التجربة إلى موضع جديد، لكن كذلك أظن بتغير حتمي حتى ولو لم يظهر في الكتابة في الحال. بتعبير ابراهيم فرغلي فإن الكتاب متخلص من أية تأثيرات أخرى وبينها تجربتي الشعرية السابقة ومن تجارب أي من الشعراء المجايلين، أو بتعبير مهاب نصر الذي كتب يقول لي: “لا أعرف كيف أقول ذلك، إنه كتابك الأول”، أو على حد قول يوسف رخا إن الديوان يعكس –أكثر من أي عمل سابق لي- المسافات الجغرافية والزمنية واللغوية لشخص يعيش خارج بلده، الأمر الذي يثري عملية إعادة اختراع اللغة التي يمارسها منذ بداياته.

أنت درست الأدب العربي في الجامعة وتابعت دراستك العليا في إسبانيا. ماذا يقدم الوعي النظري والنقدي للقصيدة؟ هل يعيق عفويتها مثلاً أم يجعلها أكثر متانة وقوة؟

يرى أمبرتو إيكو أن السن المناسبة لكتابة أطروحة دكتوراه تدور حول نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات، حيث يكون الباحث في لحظة مناسبة من الإنتاج بعد تراكم معرفي يسمح له بتكوين فكرة وبحثها. بين دراستي الجامعية في مصر وبين دراساتي العليا في إسبانيا أعوام طويلة وعلى هذا فلا أعتبرني أكاديميا بالمعنى المعروف للكلمة وإن كنت تتبعت نصيحة إيكو دون وعي مسبق بها. أظن أن الوعي النظري لا يعيق أبدا الوعي الشعري بل ربما يسانده من أوجه عدة، أقلها أن تعرف تاريخ النوع الذي تكتبه وتجلياته المختلفة وطرائقه وأدواته، لأن الملاحظ مثلا أن كثيرين ممن يهاجمون أو يدافعون عن “قصيدة النثر” لا يدركون أنها “نوع أدبي” قائم بذاته وليست مجرد شكل شعري.

هناك شبه إجماع على أن السنوات العشرين الأخيرة شهدت ازدهاراً شعرياً في مصر. لماذا حدث ذلك في هذا التوقيت؟ ولماذا حدث ذلك على صعيد قصيدة النثر تحديداً؟

أظن أن لحظة تفجر الشعرية المصرية تمت في حقبة التسعينات ولا يعني هذا أنني أشير إلى جيل التسعينات فقط، كانت هناك ثلاثة أجيال في الوقت نفسه تراجع بشكل مكثف فكرة الكتابة والشعر، كانت لحظة حوار هامة بالتأكيد، على أن الحوار لم يكن ديموقراطيا في أحيان كثيرة سقط فيه الكثيرون ممكن كنا نعتبرهم رموزا، هذا من جانب ومن جانب آخر ظهور عدد من الشعراء المعتبرين في الوقت نفسه وفي لحظة تاريخية سيكون مخلا تماما اختصارها في سقوط الاتحاد السوفييتي أو حرب الخليج الثانية، كانت لحظة قلق حقيقية على كل المستويات. كذلك يمكنني الإضافة أنه كان هناك انفتاح موسع على الشعرية العربية في أكثر وجوهها تحديثاً وتلقياً وإنتاجاً، كان كاظم جهاد أول من كتب عني وعن ياسر عبد اللطيف حينما أصدرنا معا ديوانينا الأولين، وقس على ذلك رؤية آبائنا الشعريين مباشرة في الشعر اللبناني والشعر العراقي في المهجر. أراد البعض أن يصورنا في ذلك الوقت كقاتلين للآباء بالمعنى الشعبي وفي ظني أن الأمر كان يخص انحيازات شعرية قد تجد تمثلها في أي جيل سابق ولكن في صورة شاعر فرد وليس في الفكرة القطيعية عن الجيل باعتباره كلا متماسكا. أما لماذا حدث على صعيد قصيدة النثر فأظن ببساطة لأنها وضعت الشعراء وجها لوجه أمام أنفسهم وأمام الآخرين حيث الاختلاف هو السمة الأولى.

هل تعتقد أن جزءاً كبيراً من الشعر المصري الراهن هو رد على تهميش الشعر لصالح الايديولوجيات الخطابية والقضايا المباشرة ؟

الشعر في تقديري مقدر للنخب وحتى الشعراء الذين لا يكتبون بالفصحى، الذين يكتبون مباشرة بالدارجة، والذين من المفترض أن يكونوا معروفين بشكل موسع، لا يعرفون إلا من خلال أمر خارجي كلهجة الشاعر مثلا أو طريقته في الحديث أو سلاطة لسانه وهكذا وليس من خلال قراءة قصائدهم. الشعر ليس فنا للاستهلاك السريع والأفضل له أن يكون مهمشاً وإن كان للهامش درجات أيضا، لا شك أن بورخيس حزن كثيرا عندما جاءته الشهرة على حين غرة وأصبح يتعجب كيف أن أية كلمة يتفوه بها أصبح لها رأسمالها الرمزي والعيني، لكنه كان قد نجا بما كتبه قبل تحوله إلى أيقونة.

ــــــــــــــــــــــــ

الرأي نيوز 5 نوفمبر 2009