سمير مُندي
صدر، حديثًا، ديوان الشاعر أحمد يماني (الوداع في مثلث صغير) عن دار «ميريت للنشر- 2021م». الديوان الذي ضم تسعاً وثمانين قصيدة هو بمثابة محاولة لفك ألغاز جسد تمكن الشاعر من إيجاد موقع لنفسه خارجه لمراقبته وتفسيره. من خلال هذا الموقع، الفريد من نوعه، يرى الشاعر إلى جسده، مثلما يرى إلى أجساد الأخرين باعتباره مركزًا، لا للوجود ولا للعالم، إنما لنفسه، حاملاً لوجوده المادي البسيط الذي يقوده من يدٍ وعلى قدمٍ إلى مصائره الصغيرة. يضع الشاعر جانبًا ميراث الشعر السابق من الحكم على الحياة أو إدانتها بأي طريقة من الطرق، موليًا ظهره لأي جماليات مُسبقة أو سابقة عن الشعر. ولافتًا نظرنا إلى أنه أتٍ إلى الشعر، لا ليرسي معرفته الخاصة به، إنما، ليتساءل، بالأحرى، عن ماهية الشعر. إنه، وببساطة، مجرد مترجم لجسده ولوجوده الخاص باحثًا عن لغة أوضح تشرح ما وجده على ماهو عليه، لا أكثر ولا أقل.
ليس غريبًا، والحال هكذا، أن يدشن الشاعر ديوانه بقصيدة يعلن فيها عجز اللغة عن قراءة «إحداثيات» هذا الجسد. لاسيما هذا الخيط الناظم أو اللاضم الذي يلضم أجزاء هذا الجسد بعضها إلى بعض صانعًا جغرافيته الخاصة. عجز اللغة الذي لا يعكس بأي حال من الأحوال، أي نزعة صوفية تضيق فيها العبارة عن اتساع الرؤية، يقود الشاعر إلى محاولة إعادة ترتيب عدته اللغوية، بحثًا عن مفردات يطوَّعها من يسمى نفسه «حدَّاد نفسه، وحدَّاد العالم». يقول الشاعر: «أحاول أن أشرح في لغة تعلمتها كبيرًا/ذلك الخط الذي يمتد من جبهتي حتى القدمين/الخيط الذي ينسل وينقطع ويهدأ قليلاً/لكنه يعود لشد أجزائي»(الخيط). سوف يتحول هذا الخيط، في غير حالة، إلى «حبل» ممدود، وحده الشاعر هو القادر على رؤيته، سواء في جسده أو أجساد الأخرين. الحبل الذي يتطلب عينًا خاصة لرؤيته، ولغةً قادرة على وصفه، يكافح الشاعر من أجل تعلمها، يمنح الشاعر موقعه الفريد، في هذا العالم، بوصفه مراقبًا متمرسًا يجيد فن مراقبة الأجساد ووصفها. «الكاملة في الحبل» قصيدة يمكن أن تنبأنا عن النَفس الطويل الذي اكتسبه الشاعر في فك إحداثيات «الحبل» مَعقد جمال جسد صاحبته. يقول: «أنتِ الحبل الذي يلفك كاملة/ وأنتِ الكاملة في الحبل/أنتِ لا تأتين من مكان/ أنتِ تندلقين مرة واحدة كماء يسقط من الأعالي». أو في قصيدة «بالوما» حيث الحبل يشد صاحبته إلى الحياة: «نحافتك الظاهرة جعلت من جسدك حبلاً نحيلاً يربطك إلى الأرض/ لكنه كان كافيًا لتثبيتك ولو قليلاً إلى هذه الحياة».
تعيَّن على الشاعر، حدَّاد نفسه، وحدّاد العالم، بعد أن وجد لغته الخاصة أن يكتب «تكوينه» الخاص الذي لم يكتمل فيه شيء ولا أحد. في قصيدة «الأجساد الناقصة»، على سبيل المثال، يسترعي انتباهنا هذا «التكوين» أو الكون الذي تقوم فيه قيامة أجساد ناقصة «أجساد كانت في طريقها للتكون يومًا ما/لكن شيئًا ما أعادها دون اكتمال» وألوان «بقيت دون تسمية». وبعد أن كان شاعرًا، كصلاح عبد الصبور مثلاً، يُنجر تابوته «المنحوت من جميز مصر» استعدادًا لمغادرة عالم مأساوي مبطن بالفجيعة، فإن شاعرنا، يقر لعالمه بما هو عليه، بمعزل عن الأسى أو الفرح. وبفضل لغته التي تعلمها، وعينه التي درّبها على إلتقاط إحداثيات جسده، وإحداثيات أجساد الأخرين فإنه «يحدد» موقعه من العالم، ويعيد، كما يليق بحدّاد، تطويعه ليتوائم على الدوام، لا مع العالم، إنما مع حبله أو خيطه اللاضم الممدود. يقول الشاعر: «في الثانية عشرة طرقت الحديد وهو بارد وهو ساخن/ صنعت شبابيك وأبوابًا/ جمعت المسامير والكبسولات/ شددت الألواح والعواميد…آلفت بين الحياة وأقمت الباب فاستوى قائمًا/…اثنتى عشرة سنة كنت فيها حدَّاد نفسي وحدّاد العالم/ كنت فيها نقَّاش نفسي ونقّاش الحياة» (حدّاد نفسي)
سوف تسمح وضعية «المُراقب المحايد» التي وفَّرها الشاعر لنفسه، أن يراقب جسده، في سيرورته المتصلة، متحررًا من ربقة المركزيات المأساوية التي لطالما طلَّ علينا منها الشاعر الحديث. فهو يرى إلى نفسه، مثلما يرى إلى الكون الكبير، أو بالأحرى «كونه» الذي كتب فصول تكوينه بنفسه، دون أن يُردف نظرته بغلالة من الأسى، أو صيحة من الفرح. ربما لأن الشاعر يرى إلى الفرح، مثلما يرى إلى الأسى بوصفهما انفعالين يتجاوزان ذاته المكتفية بنفسها، ويتعلقان بغيرها. فهما، في نهاية المطاف، تقويض لإقنومه الخاص والفريد من نوعه، القائم بذاته والمتكئ على نفسه، والقاضي بالإقرار للعالم بما هو عليه. يقول الشاعر: «كل إنهيار لجسدي أكافئه بملابس جديدة/ مع السقوط الجماعي للشعر أشتري جاكتًا/مع إبيضاض الحاجبين حذاء طويلاً/مع تجاعيد الجبهة بنطلونًا/ولانحناءة الكتف كوفية صوفية/لست متأسيًا على الفقد ولا فرحًا بالاكتساب/فقط أضع لكل مقام غطاء» (انهيار جسدي)
من الطبيعي، بعد ذلك، ألا يحاول الشاعر أن يُرسي أية أعراف عن شعره، أو عن الشعر ككل. وعلى عكس شاعر، كمحمود درويش مثلاً، الذي تحدث عن «شعرٍ صافٍ» لابد أن يسعى الشاعر في إثره. صحيح أنه، كما يقول، لن يصل إليه، ولكنه يجب ألا يتوقف عن السعي في إثره. على العكس من ذلك، فإن «يماني» ليس لديه «مانيفستو» عن الشعر، ولا عن الكيفية التي يجب أن يكون عليها. ولماذا لا نقول إن الشعر بالنسبة إلى «يماني» مجهول، وأن كل ما يكتبه هو مجرد سعى للتعرف على هذا المجهول. ربما يعتبر «يماني» نفسه غريبًا وصادف أن يكون «الشعر» مثله غريبًا. فهما، من هذه الناحية، ليسا إلا مجرد غريبين يسعيان نحو بعضهما البعض برغبة الغريب المبهمة في القرب من شبيهه. هذه الرغبة في التعرف إلى هذا الغريب/ الشعر هي التي تدفع الشاعر نحو التساؤل عن كنه الشعر وطبيعته، ولم لا وهو الذي بدأ كونه الصغير وكونه الكبير من الصفر أو بالأحرى من «السفر». يقول مخاطبًا «الشعر»: «هل أنتَ الذي كتبه المعلمون الكبار وناموا في قبور ضيقة؟/ أم أنكَ أنتَ الصغير الذي يعدو بخطوات متعرجة في حديقة عامة ويلمحه خلسة الذاهبون إلى العمل وإلى الموت؟….هل هناك قداسة فيك؟ أم أنك مجرد عابر لا يلمح الجميع ابتسامته الساخرة؟» (أسئلة إلى الشعر). لا يلاحق «يماني» شعرًا صافيًا مثلما فعل درويش، بل لا يلاحق شعرًا من أي نوع. إنه، بالأحرى، لا يلاحق إلا كلمات، مجرد كلمات وحسب. كلمات تبقت مما يصفه ﺑ«تيه»، بعد أن فقد أثر النغمات. يقول: «أحاول الوصول إلى تلك النغمات الغريبة التي تزلزلكما/ لكنها تأتي لتضرب نفسي المعدنية وترتد من جديد/ ولا أصل ولا تصل وتنام العين/ ربما تأتي في لحظة تيه أخرى/وأنا أتدثر بمعطف في بيت يشبه منازل أهالينا التي اختفت/ ولعلها لن تعود، ستختفي هي أيضًا في تيه أكبر/ على الأقل لحقت بالكلمات/ هذا ما أظنه مطمئنا نفسي» (إلى ياسر عبد اللطيف وهيثم الورداني)
هل لأجل ذلك يجنح الشاعر نحو «الوصف» ويبتعد عن المقامات الشعرية التي يُشتم منها ميل ما أو نزوع نحو منظور بعينه يضع بصماته الخاصة على العالم؟ أو يصادر ذلك العالم لصالح «أجندة» شعرية ما؟ ذلك أن «الوصف» قادر على منح الشاعر وضعية «المراقب» التي رغب فيها دون أن يقدم تنازلات جمالية أو إنفعالية لا تُحتمل. طالما أن الوصف ما هو إلا ترك الموضوع يظهر ويفرض نفسه على الوعي. في رائعته «الكاملة في الحبل»، مثلاً، ينبري الشاعر لوصف حبيبته متسلحًا بعينه اللاقطة القادرة على تحديد حبلها الناظم، وجغرافيتها المنبسطة على امتداد البصر من الرأس حتى القدم. ذلك الوصف لا يمجد شيئًا أو يقدس شيئًا بقدر ما يزيح الغطاء عن ما استطاع هو وحده أن يراه ويصفه. يقول: «أنتِ الواقفة في حيز يرتبط مباشرة بسرتك/بحبلها غير المرئي الذي يلفك كاملة/ وأنت تتقدمين بنهديك غير منتبهة أن الحبل غير المرئي يحملهما/ وأن الحبل القادم من مركز في الوسط يتدلى إلى فخذيك/وينتهي عند الأصابع النائمة كحمامة عينيك/ويصعد من جديد رافعًا ظهرك النحيل/وجاعله يرتاح على قاعدتين عظيمتين من الرمال المبلولة المتحركة/ ويمضي إلى مثلث يقف شامخًا دون حاجة لأضلاع/ قبل أن يصعد حتى يربط الخصلات المتطايرة وحده/ أنتِ الحبل الذي يلفك كاملة/ وأنتِ الكاملة في الحبل»