وردات في الرأس
يوليو 6, 2016
أماكن خاطئة
D
onec vitae ornare vel, massa. Proin venenatis quis, odio. Nunc in ipsum. Fusce consequat magna ac enim dictum vel, eros. Vestibulum non dui. Vivamus nibh ac tortor. Nullam et mauris turpis, et magnis dis parturient montes, nascetur ridiculus mus. Cum sociis natoque penatibus et metus et lacus a ornare lacus a venenatis arcu.
Aenean massa augue, rhoncus ac, ante. Donec ipsum eget dolor sit amet, consectetuer tincidunt turpis egestas. Cum sociis natoque penatibus et metus et lacus a ornare lacus a venenatis arcu. Morbi justo. Aenean id nulla ornare vel, augue. Sed ornare, odio non nonummy turpis. Proin porttitor ante sodales dignissim nibh. Cras commodo pede id sapien. Maecenas.
Lorem ipsum dolor sit amet augue. Sed quam ut malesuada et, scelerisque feugiat. Cum sociis natoque penatibus et netus et metus in mattis eros. Integer posuere ante ullamcorper pellentesque. Nullam wisi vel dolor. Integer aliquam.
إلى أبي
و
إلى أسامة
الصرخة
أختي صرخت في الليل:
خذوني إلى بيت أخي
وهناك صرخت في الليل نفسه:
لا لا أعيدوني إلى بيت أبي
أعادوها
وعندما همّت بالصراخ ثانية
كان الليل قد مضى
والرجال ذهبوا إلى العمل.
أختي صرخت في الليل:
خذوني إلى بيت أبي
أخذوها
وهناك صرخت
لا لا أعيدوني إلى بيت زوجي
أعادوها
وعندما همّت بالصراخ ثانية
كان الليل قد مضى
والرجال ذهبوا إلى العمل.
أختي
لم تعد تصرخ منذ أعوام
فقط تسير في الشارع
تلقي نظرة على كل بيت يقابلها
وتحلم أنها تصرخ في الليل
وأنهم يأخذونها و يعيدونها
في طريق لاأوّل له و لا آخر.
في الطريق مشت
التقت جثة ملقاة على الجانب
بثقب في الصدر تسيل منه الدماء
سريعاً
صنعت عجينة من لعاب و تراب
وسدّت الثقب
تنفست الجثة
وقامت على قدمَى هيكل عظميّ
قبّلتها وعادت إلى مكانها.
أختي
صرخت في الليل:
خذوني إلى الطريق
صرخت والليل كان يمضي
والرجال يذهبون إلى العمل.
……………
الكتاب
كيف لا يمكن لها
أن تقرأ ما أكتبه
كيف تنتظر وراء الباب
ليمرّ أحد
يعطيها بعض الكلمات
الكلمات الغريبة الغامضة.
إلا أنها تنصت و تبتسم
كأنها كانت هناك معي
في الخامسة صباحاً،
كأنّ يدها
حرّكت بعض الكلمات
نقلتها من أماكن خاطئة
نقلتها ومضت إلى النوم.
لكن كيف لا يمكن لها
أن تقرأ ما خطّته يداها بالأمس
كيف لا يمكن لها أن تفتح البلكونة
في الصباح
مستقبلةً الشمس
وبيدها اليسرى نسخة من الكتاب
تقرأها بتمهّل
وتغمز بعينيها للجارات
مشيرة إلى ابنها صانع الكلمات
ملوّحة بالكتاب في أعينهن
خمس مرات
وهي تتمتم
بكلمات غريبة غامضة.
……………..
دابّة الأرض
البيت. زحزحناه مسافة بعيدة، أبعد مما قدرنا، ثبّتناه بحوامل هوائية ليمكن السير داخله برأس مقلوبة تتمعن كلّ بلاطة على حدة، ففجأةً جاء الوقت، الوقت الكثير، لمعاينة الكرسيّ الذي يتآكل وهو يذيب نتفة من سلسلة الظهر. بعد أيام أطول سيبقى القائم الأماميّ الأيسر مسنوداً على عظمة الساق.
……………….
الحقل
تبادلوا حبّات البطيخ كأمهراللاعبين، تبادلوها في حركات سريعة. أربعة رجال في الحقل الشاسع. كلّ واحد ينتطر الخطأ. الخطأ الذي يفتّت حياة الفاكهة ويترك صاحبه خزيان وسط استنكارات لا يحتملها ذلك التراب الذي يحمي الجذور والمياه ولا يحمي الرجال. حبات البطيخ الطائرة في الصبيحة تلفّ وتدور، تعبر الرؤوس والأشجار. والرجال صارت عيونهم واسعة وخضراء. كرات من الخضرة تلفّ وتدور، تستقبل أوّل شمس وتودّع آخر قمر.
……………
الحبال
في قاع النهر
الجافّ
تحت جسر العذراء
أجلس وحيداً.
بالأعلى يقف أصدقائي
يلقون إليّ حبلاً مجدولاً.
أصدقائي يتماسكون
ويلقون الحبل
أتشبث جيداً وأصعد.
في ربع المسافة يطفر الدم
من أصابعي
فألوّث الحبل.
أصدقائي لا يحبّون الدماء.
أصدقائي يفلتون الحبل
ويمضون آسفين.
يدي اليمنى
تلطّخ الدرابزين الحجريّ
في طريقي من قاع النهر
إلى الجسر
حيث لا أعرف أحداً في هذا الليل.
………….
جارتي تموت
مضى القطار سريعا قبل مدخل النفق. المرأة بمحاذاة النافذة وشعرها لا يتطاير ترى حياتها يوماً بعد يوم، متى ولدوها، كيف أدخلوا قدميها في الحذاء، من لعقَ رقبتها. كان الجهاز يعمل بجنون، من المرجّح أنه يبدأ في التكوّن قبل الرحيل مباشرة يكافحه المرء، أحياناً يتجاهله يقول إنه سمع مثل هذه التردّدات وأحسّ ذبذبات مشابهة وبزيادتها يفلت الأمر من يده فيبدأ في ترتيب الأمور ويحدث أحياناً أن يصرخ مختصراً أعماله في جملة طويلة يؤكّد على كلّ حرف فيها، وأحياناً يكون الجهاز مشوّشاً تختلط عليه الموجات ما إن يبدأ في تصنيفها وترتيبها حتى تنهمر عليه من كلّ صوب. كنت واقفاً بعيداً من النفق بمسافة بدت لي كبيرة ألوّح لها بيدي لأدخل ككومبارس صامت في فيلمها الطويل. لوّحت بقوّة عام كامل في عدّة ثوانٍ حتى أطاحني هواء القطار دون حتى أن تراني. كيف أذيب ذراعاً لينسلّ مع الهواء ملوّحاً لها، كيف تطير شفتاي على يدها العالقة بالشباك، على أنفها البعيد كيف… كيف ألحق بحياتها الفانية؟
………………..
الصيف
في الصيف، نمضي نحن الخمسة،
إلي السور المظلل بأشجار لم نعرفها أبداً.
سور المدرسة الألمانية للراهبات.
ومن الفرجة الضيّقة التي صنعناها بصبرٍ
نتبادل التحديق في الشقراوات،
تلك الكائنات الغريبة التي تلهو في الفناء
وتتزحلق على جبل من الثلج
كذلك الذي يأتون به في الأفراح ملفوفاً بالخيش.
متدثرات بأصواف وأحذية ثقيلة.
بخار الماء يندفع من أفواههن كدخان سيجارة،
أفواههن الحمراء كالطماطم
ونحن نلهث بشفاهنا المشقّقة نتنسّم هواءً بارداً
في ظهيرة مدينتنا الكبيرة.
…………………..
الذئبة
عوت الذئبة. يطلقونها مرة واحدة في نهاية الأسبوع لتعوي وتغرغر بلعابها العظيم، تفرك نفسها قرب النافذة وتُسقِط شعرات هفهافة تطير إلى غرفتي. عيناها التائهتان في فضاء المنور للحظات تعكسان قمراً صغيراً على الحائط المقابل. من مكاني كان يمكنني تحديد وضعها ومتابعة صرخاتها التي تبدأ كفحيح وتنتهي بصرخة مطوّلة. مددت يدي لألتقط شعرة، نفساً، أيّ شيء. مددتها واستأنفت الكلام، الكلام الذي يطلقه أحد ما من جهة قريبة، من الشقة المجاورة، وأنا أعيده بصوت مهزوز. مددت يدي وكانت المسافة بعيدة نوعاً ما، لكنني احتفظت بها في وضع نموذجي. واضعاً قدمي الثقيلة فوق الأثقل، قدمي التي تعرقل المارّة أينما يذهبون، التي تفرش مساحة تغطي نصف الطريق، التي تعرقل زوجتي كذلك في المسافة الثابتة بين المطبخ و نهاية الشارع. الثقيلة حين أجري، حين أمشي، حين أقف. الثقيلة دون الحذاء وبه. مددتها والذئبة ما زالت تعوي وأنا أنتظر شعرة، نفساً، أي شيء.
………………….
الحديقة
لابد أنها قبل أن تمضي إلى البيت، قبل أن تصعد الدرجات القليلة لتبدأ حياتها الأخرى، التي تذهب فيها لأقدار وآلهة ووحوش وحدائق، لابد أنها قبل أن تمضي إلى هناك تكون قد وزّعت بدرجات لا متساوية عطاياها مانحةً الجميع شيئاً ما، يضع كلّ واحد في النقطة التي يرى من خلالها صوتها، ابتسامتها، دمعاتها الغزيرة، تجبّرها الأسمى وهشاشتها التي تغرر بالجميع. حتى أنها عندما تصعد الدرجات القليلة تكون الأقدار والآلهة والوحوش و الحدائق سعيدة هي الأخرى، ممنوحة عطايا لا متساوية بالكيفية التي لا تترك أحداً مغتاظاً. هذا لا يعني أنّ الوحوش ستتجمل في الليل ستصير حملاناً أو عصافير أو أنّ الأقدار ستغيّر طريقها المحتوم أو أن الآلهة ستبتسم أخيراً. لكن الحدائق، وحدها الحدائق، من حازت العطية الأقلّ ستتسع حتى تصير فردوساً يأخذ قدميها الصغيرتين إلى الليل والنهار، إلى الشمس والقمر، إلى بالونات وشموع، إلى الطريق مرة أخرى.
……………….
البيت
صنع بيتاً
من الرمل
ثم داسه بقدميه.
من الكرتون
ومزّقه بيديه.
من الخشب
شمعة كان يتدفأ بها أحرقته.
من الصفيح
بمساعدة أحد أصدقاء الحيّ
اختلفا على ملكيّته
فحطمته العائلتان دون هوادة.
صنع آخرَ من الحجر
على طرف المدينة
احتلّه حاملو الأسلحة.
من الجبل
دكّوه لإقامة أوتوستراد.
عاد ليلاً إلى حيث سقطت رأسه
ولم يجد البيت
فقط تعرف على بضع حمامات
كانت تتطلع إليه
ليلقي إليها حبة قمح أو شربة ماء.
………………..
الساعة الخامسة
على النافذة لا يحط غراب ولا ذبابة ولا عصافير. على النافذة تحط زهرة ذابلة وقعت من الطابق الأعلى وعلى المائدة ستبقى طوال المساء. أحدّق فيها تحت إضاءة تدمي العينين. على الحائط لوحة لـ “كليمت” بدت فيها الحياة البهيجة الملوّنة وهي تذوي أمام رسول الهلاك الناظر باستعلاء إلى الأجساد الفائرة المكوّمة خافضة رؤوسها. ميتة حتى قبل أن ينشب الملاك حربته. أضع الزهرة في المسافة الفاصلة بين الهيكل العظميّ للملاك وبين الكائنات الملوّنة، لكنّ الزهرة تتململ، تخفق أن تكون جسراً. ألم تكن ذابلة هي الأخرى؟ أزحزحها إلى العين الفارغة في رأس الملاك فتقبع مستريحة أكثر. لكنّ الزهرة لم تخلق لتملأ الأعين الفارغة، الزهرة خلقت لتملأ شرفة الطابق الأعلى، لكنها ماتت. الحقيقة أنها نزلت إليّ لأنها ماتت. إلى نافذتي التي لا يحط عليها غراب ولا ذبابة ولا عصافير.
…………….
صديق قديم
أمّه تموت. شهر ونصف، ليس أكثر. أكّد الأطباء. يقود العربة نهاية الأسبوع. يجلس بجانبها. توصيه على أخيه الكبير الهائم في البرية ولا تنسى أن تعطيه نتفاً من حياته، ربما كانت الأهمّ وليس أبداً حياتها هي.
كنت أنتظر معه، مستعيداً جملة العزاء مرّات ومرّات، الجملة التي سألقيها عليه كصديق قديم أو كصديق سيصبح قديماً بعد تمام الجملة.
في مكالمة عابرة خرجت جملة عزائي، لم يسمعها أوّل الأمر، كنت ولا شكّ أهمس بها لنفسي. مرة ثانية والجملة تتكسر على لساني، الجملة التي لفرط حزنها ستعوّض صديقي بعض الشيء وتجعله ينهي المكالمة مطرقاً يفكر. للمرّة الثالثة أقولها كآخر شيء يعلق بأذنيه، قويّة ومغرقة في الأحزان هذه المرة وإذا بصديقي القديم يضحك. يضحك فقط.
……………
البيتان
أصحو في الغرفة نفسها لأجد يدي تطرطش البحيرة القابعة أسفل السرير، لأجد الحائط السميك من بيتي القديم بنافذته المغبرّة وقد حلّ مكان حائط رئيسيّ في الشقة. فتحتُ النافذة وكان المساء لا يزال. وكان أبي في المطبخ، كانت يده على مكبس الضوء ورجله التي تنقصها السنتيمترات الخمسة بدت أطول من الأخرى، ناديته ولم يردّ، كان فقط يبتسم ويدعوني بإشارات من يده أن أواصل النوم. العالم منديل، يقولون هنا. نقول نحن هناك الدنيا صغيرة. في الليل أذهب إلى بيت أهلي، من الفرجة التي فتحتها خلف بيتي الجديد. أبقى هناك ساعة أو اثنتين أطمئن على دواء العائلة، على نوم أبويّ وعلى إفطارهما. في الفجر أهيّئ مركبتي وأعاود رجوعي ثانية.
…………………..
الجنازة
مات تشيمو هذا الصباح.
تشيمو ليس صديقي. لكنه مات.
كان يتحدّث بلا انقطاع كمن يسدّد ديناً قديماً للكلمات
التي على وشك أن تهجره.
غدا سألبس معطفي الأسود وأمضي إلى الجنازة
وعندما أعود إلى البيت سأبتسم لنفسي.
اليوم مات تشيمو،
أحد معارفي،
وها أنا لم أعد غريباً في هذه البلاد.
……………
النوم
اليوم قتل نفساً، وضعها على الطاولة وسحقها، قبل أن ينهي الأمر كانت قد شرعت تقول شيئاً، شيئاً ما انحبس في حلقها وهي تذوي بطيئاً تحت وقع الآلام. لم يثنه ذلك أكمل ما بدأه. للحظة نظر في عين عدوّه وهي ترتخي نهائياً، للحظة بكى عدوّه الشريف، الكلمة التي تحشرجت. غسل قدميه بماء وملح وقريباً جداً سوف يأوي إلى النوم.
………………
تلك الرائحة
ليتني كنت سجيناً، أو عالم زهور، أو متسوّلاً يحتلّ رصيفاً وحيداً لا يغيّره. كنت بالتأكيد سأمضي أيّامي وأنا أتحسّس التراب، التراب المقيم في الزنزانة كآخر شاهد على الشوارع والتراب المبلل لزهرة ستذبل قريباً والتراب الآخر العالق بأحذية المارة. ساعتها كنت سأمضي مرتاحاً مع أشيائي الأليفة ولن أحتاج شهوراً من الانتظار كي آلف بيتي الجديد. كنت أردّد هذه الكلمات في عبوري اليوميّ أمام دار المسنّين ومن النافذة المشرعة على الشارع حيث بالكاد يختطفون نظرات سريعة على العابرين، من هذه النافذة نفسها التي أعبرها يومياً كنت أرى مصائرهم تتقافز أمامي بالوضوح نفسه الذي أتفادى به اصطدامي بالنافذة الأرضية: أيديهم التي تؤدي الحصة اليومية للتمرينات. الشعيرات البيضاء التي على وشك أن تهفهف نهائياً عمّا قريب عند أشجار السرو. ومع أن التراب لن يمسّ نتفة من هزال أجسادهم إلا إنّ كلّ عبور من هناك كان يجلب أتربة العصاري وقد هبطها الماء، رائحة لا تخصّهم ولن يعرفوها عمّا قريب، رائحة شممتها مرات كثيرة ونحن نهبط التراب بالماء نهبطه فقط من أجل تلك الرائحة.
…………….
قالت ضحى
الحكاية نفسها ألقيها عليهم كلّ ستة أشهر، أضعها أمامهم على الطاولة بكلماتي المكسورة، الحكاية التي لملمتُ أطرافها وأنا جالس في حضن أمي على عتبة البيت ومن خيالات ضحى وهي ترعبنا بقوة سنواتها السبع التي تفوقنا. الحكاية التي وضعت فيها ملعقة فضية وبيتاً في البراري وبعض رمال الصحراء. كلّ ستة أشهر مختبراً تقدّمي في الحكي. ثلاث سنوات دون أن يضحك أحد بينما تنفجر ضحكتي أنا العريضة بعد كلّ مرة أقصّ فيها الواقعة بتخريجات جديدة، تنفجر ضحكتي كما تنفجر الحبوب التي تغطي وجهي وتمنحه سمتاً رهيباً لا يناسب أبداً الحكاية التي أقصّها عليهم.
………………..
سيموني
سيموني
من فضلك!
اذهبي إلى شارع حسن الصبان
انعطفي قليلاً جهة اليسار
واصعدي إلى الدور الثالث.
لا تسألي حارس البوابة شيئاً
اصعدي السلالم وكأنكِ صعدتها مئات المرات
اطرقي الباب بخفة
توازي وقع قدميك الكبيرتين
سيفتح لك أسامة
ودون أن ينطق أيّ منكما بحرف
عانقيه
واطبعي قبلة واحدة على خده الأيمن
قبل أن يدير لك خده الأيسر.
عليكِ أن تنحني قليلاً
لكن قليلاً
ساعتها ستجد يده طريقها إلى خصرك
عدّة سنتيمترات لن تعطل يديه
لكن لتنحني قليلاً
كي يبزغ نهداك الرهيفان
المنفصلان عن حوضك العظيم
الواسع المدوّر
إنحني قليلا ودعي يد أسامة
تلامسه
سيفرح وستفرحين.
الآن
انحني قليلاً
دعيه يفرح أكثر.
سيموني أغلقي الباب من فضلك.
……………
شارع بني كارلوه
من الممرّ الطويل المفضي إلى الشارع مرة أخرى، أربعون عاماً تأتي وتذهب أرواح سكنت هذا البيت، تترك بقعاً على البلاط وخدوشاً على خشب الأبواب ومثلها أعمق على الحوائط المتجدّدة الطلاء. أحياناً لا يتركون شيئاً، يأتون من ثقب ضيق في النافذة وينسلّون كدخان. عام، عامان ويأتي آخرون. مازالوا يراسلون السيدة سانسيث على العنوان نفسه، أضع رسائلها باحتراس أعلى علبة البريد فربما مرّت من هنا أو رمتها بعيداً عنّي منظفة السلالم. “السيدة سانشيث غادرت المدينة بل رحلت الى الخارج”، يؤكد صاحب البيت ومع ذلك فالرسائل أعلى الصندوق.
لليالٍ عدّة وبنور خافت يتملّص من خصاص النافدة وآخر متقطع ينبعث من سيجارتي أحضر الجلسة جالباً الأرواح التي شاركتني الغرف نفسها والممر الطويل. أنبش الحوائط بحثاً عن علامة، أدقّق في كل بلاطة وألوي رقبتي معايناً السقف متجاوزاً قشرة الدهان الأسمنتيّ فربّما اختبأ صوت أو انفلتت ضحكة كبيرة واستقرّت مع الملاط الكثيف، مداعبة تسرّبت بين شقوق البلاط أو ربّما خلف الكنبة الحائلة اللون دمعة أو نقطة دم تركها أحد الضيوف، ربّما صرخة مكتومة تحت السرير وأخرى صريحة على الشماعة، خلف الباب أمل رفرف حتى أعاده السقف كسيراً إلى ركن بين حائطين. أو جثة. أيكون أحد مات في هذا البيت؟
أيكونون قد قصّوا أظافره وانحشر جزء منها تحت مكبس الضوء؟
زوجتي نائمة ورأيت بعيني كيف تسلّلت شعرة من رأسها لتحتل مكاناً فريداً بين الحائط والإطار الخشبيّ للباب.
ماذا لو دقّ أحدهم الباب الآن
وأخبرني أنه السيد أنطونيو
صاحب قلامة الظفر المختبئة تحت مكبس الضوء؟
……………..
مقابر الروم الكاثوليك
كنّا بالتأكيد سنسقط من سطح هذا البيت المهدم، البيت المهدم المشرف على مقابر أقاربك، جميعنا ذهبنا إليه مع كل حبيبة جديدة. كنا سنسقط من هناك، أن تزلّ قدم واحدة ساحبة معها الأقدام الثلاثة في هبوط سريع لا وقت فيه للتشبّث بأية عارضة خشبية أو استعادة يوم واحد. كان رأسك الصغير الذي أخذته بين يدي على باب المطار يتهشّم على الحجر وشعرك، كم كان سخيّاً في منبته! يداري فلقاً أكبسه بيد واحدة فيسيل الدم من الكوع إلى الركبة في مارش جنائزي بينما أرفعك إلى عربة الإسعاف حيث قريباً سيوارونك التراب.
……………
الكتابة
في الحديقة أجلس، أخط في دفتري كلمات لن أعيد قراءتها. يحلق طائر فوقي مغرّداً ويبتسم لي طفل يجرّونه في عربة، يربّت زوجان عجوزان على كتفي. يبنما الحورية المستلقية على العشب تطلق على بين لحظة وأخرى أشعة خفيفة. الطائر يهبط على رأسي، يدور دورتين أو ثلاثة، ثم بمنقاره على الصفحة، ينقر المواضع التي يظهر فيها اسمه، ينقرها حتى يمحوها وحينما يطمئن إلى خلوّ الدفتر من أية إشارة إليه يبتعد قليلاً قليلاً ولا يعود يغرّد. الطفل قطّب وجهه قبل أن يدسه باكياً في حضن مربيته مشيراً إليّ بيد سمينة. العجوزان مصمصا شفاههما. عامل البناء المعلق على الصقالة بصق عدّة مرات. كيف لمح اسمه؟ وفتاة العشب سحبت أوراق الدراسة ومضت دون حتّى نظرة ازدراء واحدة.
……………….
الوارثون
في الليلة الثالثة لرحيله سيفترشون سرير موته بعد أن هدأ في البيت قليلاً وقع الأقدام. ومع أنّه كان يتهاوى تدريجياً فقد ظلت عيناه رائقتين قبل سقوط الجفنين تماماً. سيأخذ كلّ واحد ما يخصّه. الجبين مثلاً ستتنازع عليه البنتان وفي النهاية ستلتفت إحداهما إلى اليد المعروقة بخاتم الزواج الذي لم يكفّ هو في لحظات الشدة عن تلمسه. آخرون سيأخذون الظهر بحرقته التي دامت أياماً. أما القدم التي تسلل منها كل شيء كناموسة فستقبع هناك وحيدة لن يطلبها أحد، ستبقى هناك في نصف المتر الذي يفصلها عن الأرض حيث يقبع الحذاء اللامع على أمل أن تهبط عليه فجأةً نعمة الحركة.
…………….
النور
من شرفة الفندق ألقي نظرات وأدخّن.
الشرفة تفصل شارعين نحيفين.
ثمة ضحكات لا تنقطع ومفاوضات علنية وأرقام تتداول هنا وهناك.
ثمة أقراط تلمع في الظلام الخفيف وأسنان وتدرّجات لونية لأعضاء خرجت من الحمام منذ ساعات وبدأت في الشحوب.
ألقي بنظراتي شمالاً ويميناً وأتمطى
وبينما تمتد ذراعاي على اتساعهما
فجأة، يسطع نور خاطف في الشارعين
وإذا بي أرفرف هابطاً حيث سيبلعني هذا النور.
………………
حكاية الجاحظ
I
على رصيف المحطة والطفل لا يكفّ عن البكاء، بين عصا أمه وجزَرها يتوقف ثوانيَ لالتقاط أنفاسه معاوداً الكرّة أقوى مما قبل. رجل وامرأة عجوزان يشاركان في صرفه عن البكاء بتلك الأقوال التي تتكرّر في مثل هذه المناسبات. في عين اللحظة يقترب شاب إفريقيّ ، يلتقطه العجوز ليقدمه للطفل الباكي هدية ذعر. يخطئ السيّد الإفريقي الشابّ إذ يفكر أن دوره إلهاء الطفل فيتقدم بابتسامة بلهاء ويمد يداً تشبه جلداً مترهلاً، زائدة الحنان. “أنظر إليه سوف يقتلك!” يقول العجوز للصغير. تتسع ابتسامة السيد الإفريقيّ، الذي لا يعي لغة البلاد، فتبدأ الأسنان البيضاء الخالية من بقايا الطعام في الاقتراب من الخدّ الطفليّ الذي كان يهدأ ويهدأ على وقع أقدام القاتل.
II
قدمه التي داست صحارى شاسعة وانغرست فيها أشواك صاحية وقرصتها حشرات غريبة، قدمه التي تشققت بفعل فاعل ما إنْ يصل إلى المركب حتى يغمسها في الماء فتترعرع ويصبح الشقّ اثنين سيسويهما بيديه ويبذرهما بأشجار فارعة طالما سمع عنها من قاطني الشمال القادمين في العطلات ويظلّ طوال الرحلة يسقيها ويرعاها واضعاً القدم أمام وجهه، واضعاً غابته التي يتيه فيها وحيداً حتى يصل إلى الشاطئ، ساعتها سيضطرّ إلى قطع الأشجار وتسوية الأرض من أجل بذور جديدة تنتظره في بلاده.
III
أنا لست ملوَّناً. أنا أسود. لماذا تطلقون علينا هذه الكلمات؟ قال الرجل الذي سمعه صديقي يهذي في إحدى الليالي على الضفة الأخرى من بحر الظلمات. حضراتكم أيها السادة ملوّنون. يولد الواحد فيكم بلون ورديّ ثم يبيضّ تدريجياً فإذا ما كبر وخجل احمرّ وجهه وكذلك إذا احتدّ أو شرب الخمر والصفار شائع عند المرض حتى إذا ما اختنق يكون بنفسجياً وعندما ينتهي كل شيء ستجد الزرقة مكانها على جلده. أما أنا فأنا أسود دائما أسود. عن أية ألوان يتحدّث هؤلاء الملوَّنون؟
……………..
اليد
اليد التي تتمرغ في التراب وتتشقلب على ظهرها اليد التي لا تبكي ولا تنام
اليد التي تدهس العشبات في طريقها، اليد التي ترنّ كمعدن وتتجعّد كورقة،
اليد الخاطئة التي تكذب كطفل ملقن.
هذه اليد صافحتني عشرات المرّات في يوم واحد
عندما ذهبت إلى السوق كي أعمل.
………………….
الطلقة
قال إنه لن ينتظر ضغطة الزناد، فلا فائدة ترجى من الانتظار. إنه سيسحب الرصاصة ويطلقها مباشرة على رأسه التي تئزّ كدراجة نارية عندها سيتوقف العمل الهائل لأنّ على أحد أن يستريح وهو يفكر في نفسه أولاً.
خلف درج المكتب كان يلوّح بالرصاصة ثم رشقها مرة واحدة في جبهته فسالت نقطة دم، نقطة واحدة بالكاد كانت كافية ليسقط أرضاً بكامل ملابسه ويداه معقودتان على صدره.
…………………
دير شبيجل
الثالثة عصراً سائق التاكسي بانتظار زبون يتصفح مجلة ألمانية، نسيها أحدهم بجانبه، الكلمات الغريبة تتقافز أمام عينيه والصّوَر تلطّف الحرارة قليلاً.
على بعد أمتارٍ المبنى قيد الإنشاء. خرجت امرأة البوّاب لتغسل برّاد الشاي وتضع ماء جديداً. سقط التفل على قدمها اليسرى فانحت لتنظفه بينما انتقل الآن إلى الركبة ثم الفخذ والسائق فتح باب العربة وأغلقه محدثاً جلبة، كذلك مياه الغسيل أحدثت نفس الجلبة حين رفعت امرأة البواب الخرطوم إلى ما فوق سرتها لتنظف بقايا الشاي الذي بالتأكيد كان لا يزال يغلي في الثالثة وثلاث دقائق.
…………….
السوق
غداً سوق القرية
سأذهب إلى النبع
حيث تنسلّين لملء جرتك
الجميع في السوق وأنا عند الشجرة
نحفظ العشرين متراً دون زيادة أو نقصان
هذا قبل أن تفركي حصاة أو اثنتين
وقبل أن تنزلق قدم وتنزلق جرّة
لأصبح أنا في المقدّمة
في طريقنا إلى النبع من جديد
بعشرين متراً وابتسامة خفيفة
اليوم سوق القرية
الجميع في السوق
وأنت عند النبع
وأنا أسبقك بعشرين خطوة
وكلّ ظهري عيون تلمع.
…………………..
المسألة
أعطته المدرّسة مسألة تأمّلها طويلاً وأعادها إليها أعطتها له وأخفق ثانية. مرة ثالثة وانفجر في البكاء. المعلّمة على باب الفصل تضحك. الأمّ على باب المدرسة تضحك، لم يرها ولا عرف كيف وصل إلى البيت. المسألة تطنّ في رأسه يهشّها فتلاحقه أكثر، حتى في اليوم التالي أفلتت منه بعد شرح مسهب من المعلّمة. كانت كرة من الثلج بين يديه كلّما أطبق عليها ذابت أكثر.
………………
الفيلم
أعطانا عادل الشريط،. بالصورة وحدها ستفهمون كل شيء. أنا وأسامة وحسين. فيكتوريا أبريل وماريبيل بيردو. ثلاثتنا وقعنا في غرام فيكتوريا القوية أما ماربيل بيردو فكانت حلمنا كزوجة محتملة عارية في خدرها. أكدت على أسامة وحسين أنني سأرى ماربيل بيردو بعد تسع سنوات بالتحديد على خشبة المسرح. ستكون عارية كذلك وستفصلني عنها عدة أمتار لن تساوي أبداً تلك المسافة التي سمّرتنا أمام الفيديو حيث عيوننا الحمراء المتّسعة وسجائرنا الرهيبة والكلام الذي لا ينتهي. بعد تسع سنوات كنتُ هناك في المكان نفسه، في بلدة زوجتي، مسمّراً بعين متّسعة وماريبيل تتعرى شيئاً فشيئاً. دون سجائر وبالتأكيد دون أسامة وحسين.
………………….
بيتنا القديم
من كوّة في الحائط
ينسلّ خيط شمس مرّتين في العام
لينير وجه الأب الممدّد على الكنبة.
مرّة يوم زواجه ومرّة يوم عمله بالحكومة.
……………..
السادة الشوامّ
المغنّي الأرمنيّ كان يبكي شيئاً ما. كان بالفعل يبكي بعدها رأيت دمعات كثيرة تتلألأ فوق لوحة زيتية باهتة.
في كلمات معدودة اختصر صاحب المطعم أربعين عاماً قضاها خارج البلاد: الحزب السرّيّ، السجن، الفرار. ثم بغتة طبق التبّولة في يده.
المطعم فارغ في وسط الأسبوع. مائدة وحيدة لزوجين عجوزين ألقى بهما الملل إلى هنا. فجأة تغيّرت الموسيقى وحيّاني صاحب المطعم من بعيد. كان عبد الحليم على وشك أن يصدح بقارئة الفنجان تأكيداً للجمهورية العربية المتحدة. في الصباح نفسه كنت والموظفة قد تلاصقنا تماماً وهي ترتّب أوراقاً لي وكلّ منا يحاول عبثاً الحفاظ على مستوى عادل من الصوت.
***
عبرَ جدّي باب الشوام من ناحية خوش قدم وألقى السلام على السيّد صديقه الحلبيّ الذي دعاه إلى تبّولة أكلها الرجل هانئاً بعد محاولة انتحار فاشلة. كان قد خاف العودة للبيت دون جبّته وقفطانه الجديدين المسلوبين من قبل بعض اللصوص على ظهر المركب الذي يحمله إلى القرية. دون جهد ألقى بنفسه في النيل وهناك بالتحديد وجد من ينقذه.
***
من قلب مدريد ومن شرفة البنسيون حيث قريباً سآوي إلى النوم أرى اثنين من المغاربة يتطوّحان وأحدهما يردّد بلا انقطاع:
لا حول ولا قوّة إلا بالله! لا حول ولا قوّة إلا بالله!
……………..
بائعة الزيت
بينما تدخل حاملةً عبواتها كنت ألحق بها على العتبة كي أضع عنها حملها رافعاً العبوة الثقيلة. كنا نتقدم نحن الاثنان كتفاً بكتف. في اللحظة نفسها انفلتت نقطة من عبوتها الصغيرة. النقطة سقطت في منتصف المسافة بين أقدامنا المتجهة صوب المطبخ. وبينما ننزلق قبضت كفّانا إحداهما على الأخرى كانت الأرض رطبة ونظيفة والعين المفزوعة سكنت خضرتها وارتعشت قليلاً بندى الصباح.
……………….
بائعة الفضة
كلّما امتدّت يدي لتتحسس المعدن اللامع بأشكاله الغربية كانت شوكة تطلع لي لا أعرف من أين فأتراجع دون أن ألمس شيئاً، لمرات عدة تنبثق الأشواك، أشرت إليها أن تحميني من هذه الكائنات الخرافية التي لا تكف عن شيطنتها وبينما كنت أحدّد لها الموضع تلامست يدانا دون قصد فاختفت الأشواك فجأة وظللنا طوال المساء نتحسّس بياض المعدن.
……………..
بائعة التبغ
يدها على العلبة وقدمي خارج البيت. فجأة تعتم، وهي تواصل فرك التبغ على فخذها اللامعة.
تتوقف قليلاً تنقل نصف التبغ إلى الفخذ الآخرى وأنا أدخل في الدهليز الطويل وأبدأ التدخين.
……………….
الدفتر الأحمر
كنت أزجي ليلي الطويل، كحارس مستجدّ لأحد المصانع، بقراءة مسترخية أبطئها قدر ما أملك كي ينقضي ليلي. كان كتاباً صغيراً لبول أوستر “الدفتر الأحمر” يروي مصادفات واقعية ولا يرى الصدفة عمياء بتاتاً. كنت أنتقل من صدفة إلى أخرى حتى وقعت على هذه: كان بول أوستر في شبابه يعمل حارساً مؤقتاً لأحد البيوت في ريف الجنوب الفرنسيّ مع صديقته لقاء المأوى.
بحثت سريعاً عن ورقة لأدوّن هذه الملاحظة وأسلّي نفسي بأن العمل حارساً ليس سيئاً تماماً. كنت أبحث عن أية ورقة ملقاة وعلى مكتب غرفة التحكّم كان يقبع هناك منزوياً الدفتر الأحمر الصغير.
……………..
المحاربون القدماء
على جبال البوسنة قضينا المساء كلّه نشرب ويغنّون. أحدهم كان يصطحب ابنه، ابن الخامسة الذي تربّى في بلاد أخرى ولا يفهم هذا الغناء. الطفل خنقه الملل فاقترب مني وقد اشتمّ فيّ غرابة ما فأنا على الأقل لا أصدح بتلك الأغاني ولا أرطن بلسان أقاربه ولا أعرف مثله جبال البوسنة. أخذ يلفت انتباهي بحركاته الطفليّة حتى قبع أخيراً تحت المائدة يفكّ رباط حذائي. حذائي أسود والطفل يجاهد غبش المساء وظلمة المائدة المغطاة بالمفرش. يلفّ ويدور كي يتمكن من الرباط وما إن يقبض عليه وتبدأ الراحة تعرف طريقها إليه حتى يفلته وقد تركه مفكوكاً ثم يجاهد من جديد حتى يربطه. يلفّ ويدور ويعاود الكرّة. السيّد سيزيف الصغير على جبال البوسنة.
………………
الطاولة
وضعتُ رأسي على المائدة كان المساء بلا روح بلا جوهر يخصّه. هززتُها معنّفاً أن تكفّ قليلاً عن العواء وإذا ما أرادت أن تجعر هكذا فليكن ثمراً لطيفاً يسّاقط على أرضية الغرفة أجمعه وأصنع منه أساور وعقوداً وأقراطا أعلقها على باب البيت أو أضمّها في كتاب تجفّ داخله على مهل أو أهديها إلى فتاة عاملة تضعها بجانب عطر رقبتها الرخيص.
……………….
السلسلة
فتحتُ الباب للمرّة المليون بالطريقة نفسها واضعاً المفتاح في القفل وساحباً السلسلة الحديد فيدوّي في الشارع النائم أنين حزين. أجاهد أن أنوّع في سحب السلسلة كي أخفف الحزن قليلاً عن الشارع لكنها كانت تزأر كالعادة وكان الشارع يغوص في صمته والأنين الجارح يكاد يخنقني أنا الوحيد الذي أسمعه في هذا الليل.
……….
العمل
أيّ شبح كان سيظهر لي سيصير صديقي على الفور سيحاول إخافتي قليلاً صارخاً بصوت قادم من العدم. لكنني سأربّت عليه سأحيّيه على لطافاته. تمنّيت للحظات أن يصعد العنكبوت النائم بالأسفل فتحتُ له النافذة أغريته بشبكة تشبه بيته وبها وضعتُ ذبابة بلاستيكية. القطط وخصوصاً السوداء وددت لو تعبر ببابي هذه الساعة وأن تموء صارخة عندما يعبر الإنسان من أمامنا، عندما يرفع يده ليقتلنا وعندما يردم التراب فوق رؤوسنا في تلك الحفرة التي ظل ينقّب فيها طوال الليل.
…………………..
نقل قلب
القلب الحيّ في الجسد الذاهب، في يد الطبيب، في الثلج، في الإناء، في الطائرة، في الردهة، في الغرفة، في اليد من جديد، في الجسد من جديد، يتنفس، يزهر، يبقى هنا. المرأة على باب المستشفى تلقي نظرة من بعيد على قلب الراحل. القلب يخفق. يراها ويخفق. تتراجع إلى السور. يتشمّم. يتملّص. يحدّد اتجاهه: يدان متعانقتان تخربشان السور الحديد للمستشفى.
…………..
قدمي
كلّما مرّت قدمي أمام كرسيّ متحرك
أو أمام رِجل ملقاة في الطريق،
أو نصف رِجل،
فإنها تبدأ في التلكؤ وتنثني وأخيراً تتوقف
تحرن أن تعطي خطوة واحدة
أجرّها كجوال رمل والعرق على جبيني.
………….
الصباح
في تلك الليلة ظللتُ أتضرع لإله قريب من بيتك أن يوقظك من النوم، أن يسرّب رائحتي لأنفك وأن ينقّط عليك عرقاً ودموعاً صغيرة وأن تهبّي من النوم فجأة متحسّسةً السرير باحثةً عن ذراعي التي امتدت رأسك عليها في الصباح الفائت، الفائت منذ زمن.
……………
الراقصة
في الليل في خلائه في أصوات صراصيره وضفادعه في الرطوبة على العشب وعلى أعواد الفول على الحافة بين الماء والأرض يمدّد رجليه ساحباً بطمبوره الماء إلى الأرض طوال الليل بجانب حماره لا يغنّي يحلم بقرى أخرى ونسوة بيض وأنوار كهارب وبيوت من الأسمنت. فجأة خرجت له رنّ خلخالها زغللت عينيه نادت عليه باسمه نقر على طمبوره رقصت مدّت يدها تراجعت خطوتين تبعها نهق الحمار شخرتْ ونخرتْ. في الصباح وجدوه على الحافة ورأسه بكاملها تغوص في الماء.
……………..
السحابة في طريق الآلام
كان هناك إلى أقصى اليمين بذراعيه الممدوتين. وجهه كان غامقاً بعض الشيء وبنفس ملابسه الخفيفة ذاتها التي اتفق الجميع عليها شرقاً وغرباً. لم ألمح رؤوس المسامير ولا تاج الشوك كان الوقت ما زال مبكراً ونافذة السيارة مغلقة. كنت أسير في ريو دي جانيرو صحبة “لاريسا” حيث تأخذ يدي بخفّة لنعبر الطريق.
وكان هو هناك إلى أقصى اليمين بذراعيه الممدوتين والعربة تسير وصديقتي تشير إليه والسحابة تمضي.
…………….
الحبّ الأوّل
كان قد لبد لها على السلّم وأمسك بنهدها في ذلك المساء الحارّ، النهد ذاته الذي ترجرج أمامي حين بدأ الحبّ ينقر آذاننا. كنّا صغاراً ترتعش شفاهنا من نظرة ملح وتصبح الكلمات ذباباً وبعوضاً يحوم حولنا ولا نطاله بينما النهد يترجرج وحده هارباً من قفص الصدر عام 1986. لم يتركه وحده بل تسلّل إلى كلّ عظمة يشفط نخاعها تماماً كما أحبّت هي دائماً مصمصة عظام الطيور أيّام الخميس في بيت عائلتها.
الليلة زارتني ثم دعتني إلى شرفة بيتها.
مكثنا قليلاً نتحدّث
الليلة أحببتُها كما لم يحدث من قبل.
……………
عصا أبي
عصا الرجل العجوز الذي يسكن بالأعلى لا تتوقف عن الدبيب طوال اليوم. الخبطات نفسها التي أعرفها تماماً، الخبطات التي كانت تدبّ في بيتنا البعيد صباحاً ومساء. كلّ خبطة منها تفتح قبر أبي لأطلّ عليه من وراء هذا التراب الكثيف. كان الرجل يمضي في حياته وحياتي أنا تمضي وراء عصاه.
……………..
تجريد
أردتُ أن أصغّر كلّ شيء، مدينة بكاملها تصير غرفة، بلادي كبسولات أبلعها قبل النوم وبلاد الآخرين حبة طماطم آكلها على مرتين. والطائرة ستصير دراجة. كان هذا قبل أن تداهمني الذكريات وتتركني بملابس ممزقة ملقى على الرصيف. تماماً كذلك اليوم الذي هبّ فيه أبناء حيّنا لطحن الغريب الذي تجرّأ وألقى كلمة طيّبة في أذن جارتنا.
………….
پاتشا ماما
منذ سنوات بعيدة كنتُ أفرد أمامي خريطة العالم وأرسم بإصبعي خطّاً يمتدّ من بيتي إلى بيتك البعيد عابراً بحوراً وجبالاً وأنهاراً ومزارع وصحراوات، عابراً بحيرات وجزراً وثوراً بقرنين مذهّبين قابعاً في انتظار العابرين، لم أتوقف أبداً في منتصف المسافة لألقي نظرة. كنت فقط أودّ الوصول إلى بيتك لأطرق الباب وأجدك وراءه وفي يدك الخريطة نفسها مؤكدة أنني لو كنت قد تأخرتُ قليلاً لكنتُ فتحتُ النافذة وعبرتُ بحوراً وجبالاً وأنهاراً… نزعتُ إصبعي من بيتك البعيد، وضعتُ الخريطة في الدرج وبقيت نائماً في هواء الغرفة المقفلة.
………………
خروج
حملتُ أوراقاً وأقلاماً وكتباً ومشيتُ ليلاً على شاطئ البحر مشيتُ حتى اصطدمت قدمي بقارب مهجور أو حسبته كذلك. القارب تخبطه الأمواج وهو قابع على الرمال وضعتُ نفسي بأشيائي داخله فانزلق إلى البحر أوقفتني الشرطة بعد نصف ساعة من التجديف، أين تذهب بهذا القارب المسروق؟ وفي هذه الساعة من الليل؟ قفزتُ مرعوباً وكتمتُ أنفاسي حتى وصلتُ إلى الشاطئ. أوراقي وأقلامي وكتبي كانت قد تلاشت هناك. ظللتُ أعدو حتى أطاحتني قدم أحدهم في الهواء ومن ثم منكفئاً على وجهي. ركبتي تنزف والرمال في أسناني. إلى أين تذهب أيها المذعور؟ صاح الرجل فعدوت أكثر رعباً حتى نهاية الشاطئ. كانت كتلة هائلة من الأحجار وبأعلاها سور أصعد حجراً وأنزلق والشعب والأصداف العتيقة تجذبني لأسفل وحينما وصلتُ إلى السور في النهاية ارتحتُ قليلاً ثم رأيتني أمشي من جديد على شاطئ آخر وفي يدي أوراق وأقلام وكتب.
…………….
الهروب الكبير
كانوا قد حكموا عليّ بالإعدام أنا واثنين من أصدقائي وذلك حسب قولهم للقتل الرحيم الذي أفضى إلى موت صديق رابع لنا. لم نفهم جيّداً ما يعنونه بتلك الأقاويل ومن ثم فقد تركونا طلقاء دون حراسة أو زنازين وحكموا علينا بنوع من الإعدام يسمونه الرحيم كذلك وهو نوع تنفّذه امرأة في منتصف العمر لها وجه بشوش وليس به من ألم ولكنه موت على أية حال. تشاورتُ مع أمي وأصدقائي قبيل التنفيذ بقليل وقررت الهروب وافقوا جميعاً بينما بقيا هما في انتظار السيّدة. وما إن خرجتُ بعدما أعطوني كل ما لديهم من نقود حتى تقابلتُ والسيدة الرحيمة وجهاً لوجه بجانب البيت. لم ينظر أيّ منّا للآخر تحاشتني ومضت وأنا تجاوزتها بقليل وبدأت أجري وأنا أتلفت ورائي في بلاد أخرى.
…………….
سماد
في برطمان زجاجيّ علقته بداخل خزانة المطبخ كنت قد حرقتُ حبّي وجمعتُ رماده. في نهاية الأسبوع أرشّ منه على نباتاتي فأراها تهتز في اليوم التالي تنتعش قليلاً ثم ما تلبث أن تموت تاركة صفاراً محروقاً في كلّ إصيص. آخذ الصفار وألقيه بعيداً وأوشوش للنباتات أن تنسى الأمر برمّته.
…………..
واحد وعشرون جراماً
أعلنتُ في لحظة مهيبة أمام عائلتي أنّ روح أبي قد حلّت فيّ وأن عليهم أن ينتبهوا، إذا ما متّ في سريري، إلى أن جثتي ستفقد اثنين وأربعين جراماً من وزنها وهذا قد يساعد في فهم أوضح لأبعاد عظامي عندما يصبون الماء فوق رأسي ويرفعون ذراعي عالياً كي يطالوا الإبط النائم فوق شعراته القليلة.
……………….
حائط
تخربش السيدة بأظافرها تنزع عن الحائط بقعة. في الجهة المقابلة من الحائط نفسه يخربش السيد بأظافره واضعاً مسماراً للوحة جديدة. البقعة عنيدة والمسمار ينثني. يدفع كلّ منهما بقوّة أكبر، البقعة في طريقها للزوال والمسمار وجد أخيراً طريقه. الرجل يخبط بدفعات أقوى والبقعة تتفسخ، تتلاشى أخيراً. يتنحنح الرجل وكذلك المرأة ثم يعاودان كلّ شيء من البداية.
…………
قطار الشرق السريع
تنويعة إفريقية على “المفكّر” لرودان، قناعان سنغاليّان لرجل وامرأة في وضع جانبيّ، كانوب فرعونيّ لحفظ أمعاء الميت، مسبحة من الصندل دسّها أبي في يدي عند رحيلي، مائدة صغيرة من الصدف “صنع في مصر”، الكاماسوترا في تماثيل صغيرة من العاج وبجانبها برص ملون بتوقيع جاودي، على الحائط الأيمن، بعد الباب مباشرة، معلّقا من ظهره فقير هنديّ يعزف على مزمار يقبض عليه بكلتا يديه ورأسه محنية قليلاً تؤدي التحية للقادمين فتهب الموسيقى قادمة من رؤوس الزوار ساحبةً معها روائح حريفة وعطوراً غريبة تخبط أنوف جاراتي اللواتي يطرقن الباب متباطئات ويطلن الكلام في أي شيء يسحبن بلاداً وخيالاتٍ ويهمن لثوانٍ على الباب ثم يمضين متنهّدات.
…………..
حساب المثلّثات
عبثاً يحاول نفر مثلي أن ينطلق في الهواء، فالتراب قدرُ بُرجي، أكّده لي صديق يقرأ الطالع على شاشة الكمبيوتر وبعد قراءة غامضة وطويلة لأوراق نجومي أكّد أنّ لكلينا نفس المصير التعس باختلافات تفرضها ساعة الولادة وليس مكانها، هو المولود على المحيط الأطلسيّ وأنا قرب أهرامات الجيزة وأبي قرب هرم ميدوم. أهرامات من التعاسة ستحيط حياتي وفي النهاية سأرقد تحت واحد منها.
…………..
الجوع
الطفل يطلب لقمة من بائع طعام. البائع ينهره. الطفل يسأل زبونة نصف لقمة. الزبونة تنهره. الطفل يخطف كلّ طعامها ويفرّ خلف المحلّ. طفل آخر يطلب منه لقمة. نصف لقمة. يشير إلى صندوق كرتونيّ يلقي فيه بقايا الطعام. الطفل يأكل ومنه تتساقط نتف ينقلها النمل في نشاط واضح إلى بيته بجانب المحل. بائع الطعام يرشّ قهوة مغلية على النمل ولا يفكر أبداً باستعادة طعامه المسروق.
…………….
صانعة الوشم
على يدها رسمت الهيكل العظميّ ليدها، فقرة وراء أخرى محدّدة بدقة الفواصل والأبعاد، كان عظم فوق جلد فوق عظم. على رأسها الحليق وضعت بيت عنكبوت ولونته بالأخضر والأحمر ومدّت البيت إلى رقبتها التي يحميها طائر رخّ عظيم، بينما العنكبوت خارج بيته، كان هناك قابعاً عند الصدغ ويصله بالبيت خيط رفيع. كانت هناك حيوانات تأكل رأسها وذباب كثيف ينخر بيت العنكبوت ويدها العظمية على باب القبر من الداخل تخبط ولا أحد يفتح لها. الثعبان كان يصارع طائر الرخّ حتى أفلته ضجراً عند الفجر.
……………
الجنود
كانوا قد حذّروا في خطاب شديد اللهجة من مغبّة الاقتراب من تلك الغرفة تحديداً. كانت غرفة مهجورة في بيت قديم يطلّ على بحر في بلد شاسع بمزارع ورمال ومياه وأزمنة. البعض أرجع هذا المنع إلى وجود أجهزة مبثوثة في الغرفة لا ترى بالعين المجردة وأنّ وقع الخطوات يشوش عليها ويجعلها تتخبّط في عدة أغلاط. اقتربتُ من الغرفة. بالأسفل كانت كلّ الرموز من اليمين إلى اليسار وعندها جاءت القوّات وسحبتني بعيداً عن أصدقائي الذين توافدوا على الفور وكان بينهم صديقي الذي مات منذ أعوام ولما سألته عن حاله ظلّ ينظر للأرض طوال الوقت وبصوت مشروخ أكّد أنه بخير وأنه جاء ربّما احتجته كدليل فيما بعد. تركوني دون حراسة ودون إعلان شيء محدّد. تسلّلتُ من زمرة الأصدقاء وحلقة الرموز وبدأتُ أجري في المزارع حتى وصلتُ إلى البحر واندفعتُ داخله. كان الجنود هناك يضحكون ساخرين منّي بعدما أعلنتُ لهم عن تفضيلي الغرق على الوقوع في قبضتهم. مياه البحر أخذت تدفعني ككرة بلاستيكية باتجاه الشاطئ يرميها طفل فترتد إليه متلألئة. الإعدام، قيل إنّه على كرسيّ كهربائيّ ينتظرني في غرفة أخرى. الجنديّ المكلّف بحراستي أخبرني أنه يكتب القصة والمسرح وأنه سيفاتح رؤساءه في مسالة العفو وأنني قد أعود عما قريب إلى زمرة الأصدقاء وحلقة الرموز وأنه ربما كتبَ مسرحية من فصل واحد يدوّن فيها ما حدث.
……………….
ختم أمي
كان قابعاً هناك في أعلى نقطة من الدولاب، داخل علبة الشوكولاتة الصفيح التي أهدتها إيّاها زوجة الخواجة ليلة دخلتها. كان هناك تحيط به أوراق مهترئة، إيصالات تعلوها زخارف زرقاء يصعب إرجاعها لحقبة بعينها. كلّ أسبوع في خلاء البيت آتي به، أبلّل نقوشه وأطبعها على أوراق بيضاء وأمعن في خفة الحبر والاسم المقلوب فوق المعدن وأجاهد كثيراً كي أضبطه في إيقاع بصريّ يتناسب وحجمه وأمنّي نفسي بواحد شبيه يوماً ما.
……………
الريح
خمسة أشباح في الحقل الواسع، خطواتهم ترنّ تحت أقدامهم ومن بعيد تتراءى ألوان الملابس، صفراء وحمراء. يمضون إلى نقطة غير معلومة، لا ظلال لهم، في مارش عسكريّ. فجأة يسقط واحد في أقصى الميسرة والركب يتقدم بألوان أقلّ ورنة قدمين غائبتين، والحقل الشاسع في نقاط غير معلومة يبدأ شيئاً فشيئاً بابتلاع الألوان التي رفرفت مرة واحدة في الريح.
………….
عزيزي بورخيس
شخيرها المتقطع وعطرها الزاعق يملآن الغرفة. تنام في التاسعة لأنّ السرطان الذي كافحته منذ عشرين عاماً سيعاودها في الحادية عشرة إذا وجدها بعينين مفتوحتين. أكّدت أنّ بورخيس، كان كفيفاً، قالت، كان يخبط نافذتها كلّ يوم منادياً إيّاها باسم التحبّب ويقضي شطراً من المساء صحبتها وأنّه، يا للخجل! قالت، بعد كلّ محاورة معها يذهب ليكتب وأنها وجدت “أفكارها” مبثوثة في ثنايا كتبه.
كانت تصرخ هائجة في الغرفة: لقد سرقني العزيز بورخيس، يا للخجل، يا للخجل!.
عزيزي بورخيس كلّ كتبك التي أهديتها لي لا تنفعني بشيء، إنني أتضوّر جوعاً وفي جيبي بضعة بنسات.
عزيزي بورخيس أعطني ورقة مالية كبيرة وأعطيك في المقابل كتاباً جديداً عن المتاهة.
أوه عزيزي بورخيس أرجوك لا تخبط نافذتي مرّة أخرى.
إنني أموت، أموت
عزيزي بورخيس.
……………
المياه
كانت تنساب من أضيق الشقوق، من ضيق ما بعده ضيق، لتفيض فجأةً كمجرى للنسيان. أية ذكرى هنا تستحيل إلى قادم لا نعرفه. بقوّة الرتابة يشقّ الصوت وحده الظهيرة ثم المساء وأمّا الليل فتتجاذبه الضفادع والصراصير التي تجمعت لخلق إيقاع موازٍ. الحياة تبدأ وتنتهي هنا. أمّا نحن الكائنات العاقلة فقد مررنا بالقرب، غمسنا أيدينا فأرجلنا ثم سقطنا بكاملنا، حاولنا أن ندور مع المياه، أن نردّ غناء الضفادع، حاولنا أن نحفر في جذعِ شجرة قريبة تسجيلاً دقيقاً، حاولنا والمياه كانت تمضي بعيداً وتنساب وحدها من أضيق الشقوق.
…………..
غزل
كلماتكِ القصيرة التي ألقيتِها على مسامعي في لغة لا تملكينها تماماً عندما صحوتُ في العاشرة صباحاً وبأذنين نصف مشرعتين تسلّمت الكلمات التي ستصاحبني للآن: من هذا العسل الذي ينام في سريري!
……………
البحيرة
أحياناً حين تغادر مدينة وأنت على وشك أن تطأ آخر متر مربّع فيها، ينبت أمامك، فجأة، شارع ما كنت تعرف عنه شيئاً، شارع تعرّشه أشجار عتيقة شذّبت ذؤاباتها الملتحمة على هيئة محاريب. الشارع يبدو طويلاً، ونحن في العربة ننقل ما تبقّى من أمتعة حين أفضى على حين غرّة إلى بحيرة ليس لها من مدخل سواه. توقفنا قليلاً لندخّن قبل أن نسرع في الاتجاه المعاكس قبل أن تبدأ عشرات الشاحنات بمغادرة المدينة والاصطدام بنا على ضفاف البحيرة وغبش المساء وهجر مدينة للأبد.
…………
مرسم عبلة
في مرسم صديقي اصطدمتُ قدمي بلوحة ولم تنكسر (أيّ منهما لم تنكسر). الأيام الطويلة التي قضيتها هناك جعلتني أفكر أنني أيضاً رسّام، كنت أعود إلى البيت بيدين ملطختين بالألوان وعند غسلهما أجدهما خاليتين من أيّ لون. في لحظة كشف، أراد بها صديقي وقف نزيف الألوان على يدي، أعطاني أوراقاً وألواناً وقال ارسم ما يعنّ لك، فكّرتُ مباشرة في عيون موديلياني التي هي بقعة لون على القرب وحياة على البعد. وضعتُ لطختين بلون أخضر على الورقة وانتهى الأمر. في طريقي لغسل يدي كالعادة حين العودة للبيت لم تكن هناك ألوان هذه المرّة فقط لطختان خضراوان في باطن اليد اليسرى، لم تتلاشيا أبداً حين بدأتُ الكتابة
……………
الشيخان
كانا معلّقين على حائطين، واحد في بيتنا والآخر في بيت الخال. كانا بالتحديد في مستوى العارضة الأعلى للباب حيث يرتفعان من هناك مقتربين من السقف. الوجهان بحجم طبيعيّ ممّا جعلني أفكر طوال الحياة أنّهما بالتقريب يطالان السقف وأنّ باقي الجسد غير المرسوم على الحائط كان يقبع هناك مختفياً في جلبابه الطويل، حائط كامل لا يمسّه أحد في طريقه فالجسدان الوارفان وراء الطلاء: أحدهما أزرق العينين بشارب مبروم تحت أنف دقيق وجلد محمرّ والآخر أسود العينين ضيّقهما بلحية لا شارب لها تمتد على سحنة سمراء. الاثنان واقفان وراء الحائط وتحيّات الإجلال ومصمصة الشفاه وترحّمات لا تنقطع وبيوت محروسة بالراحلين.
……………..
الطريق
يحمل رغيفاً ويمضي، في كلّ خطوة يرمي قطعة منه كي تدله على الطريق. لا يعرف أين يذهب، لكنّ قطع الخبز تقوده. الرغيف انتهى وما وصل. حاول العودة متتبعاً فتات الخبز لكن الطيور كانت سبّاقة. وقف في مكانه وكان ألم رهيب ينخر معدته وخوف مبهم ينبعث من الأركان الأربعة المظلمة التي تحيط به.
…………..
الألم
الموضع يتغيّر كلّ عام أو عامين، يتركّز في نقطة لا يكتشفها أحد. الدم لم يكن نقطة، كان على الأقل عشر نقاط تتوزع أربطة الشاش. في الممر الطويل أضواء صاعقة. الألم سيكون له موضع آخر، الألم الذي يدع الحنجرة سالمة لا يمسّها لأنّ صرخة لن تكون كافية أبداً لموازاته، لمكافأته، لكنها تعلن أنها هنا من أجله، تتقدم بدلاً منه. جفّ الدم، لكن الألم بقي بقدر ذكرى قديمة لا تتوانى في العودة كلّما عنّ لها.
……………….
ملابسي
ملابسي معلّقة على الحائط
منذ قليل كانت تنثني وتتشكّل بحركاتي غير المنقطعة
الآن تقبع وحيدة مع الذكريات التي جمعتها طوال اليوم
القميص على الشمّاعة بانتظاري صباحاً
ربما سحبته معي إلى الشارع
ربما تركته ليستعيد حياته، ليتنفس نسيجه بعيداً عن عرَقي
عرَقي الذي تحبّه ملابسي وتعطيه رائحة غريبة
تجذب نساء مبتسمات يعبرن طريقي مساءً
وفي الصباح يسحبن بخفة ملابسهنّ
التي طارت أسفل السرير
ويبتسمن مرّة أخرى
لحياتي ولملابسي المعلّقة على الحائط.
…………….
الرفيقة
في الخامسة صباحاً انهدّ حيل الإنسان والحيوان وبلغ الشقاء بالكائنات الحيّة مبلغه. الخامسة والكلبة التي رافقته طوال الليل في جولات شاقة داخل مصنع الكيماويات المجلوب من عصور سحيقة والمنسيّ وسط قرية لم يعرف اسمها أبداً كانت قد تمدّدت على الأرض وبقيت ثلاث جولات لحين انتهاء الوردية. معتذرة عن جسدها المتهاوي بنظرة لا تحوزها إلا الأرواح الكبيرة. ساعتها قرّر تجاوز شروط العمل والبقاء بجانب روحه الكبيرة مغمضاً عينيه وفاتحهما مطمئناً إياها حتى تروح في سبات عميق سيقطعه عليها حشد العمال القادم بعد ثلاث ساعات.
…………….
الانزلاق
كانوا أربعة في شرفة مهدّمة في الدور الأخير، الشرفة بدأت في التفسّخ، كان واضحاً أنها ستسقط بهم لو تحرّك أحدهم قيد أنملة، الحلّ الوحيد أن تمتدّ يد لانتشالهم. عندما دخل الخامس مهرولاً زمجرت الشرفة وتأرجحت في الهواء، كان السقوط قادماً لا محالة، عندما امتدّت فجأة عشرة أياد أخرى ساحبةً الجميع إلى أعلى السطح. كانت معجزة أن يفتح الواحد عينيه ويكون على السطح بينما كان لابدّ أن يكون هناك مكوّماً على الأسفلت. الحبل الذي مدّته الأيادي العشر لم يعثر عليه أحد بعد ذلك، كأنه لم يكن موجوداً من الأساس، كأنه لم تكن هناك عشرة أيادٍ ولا شرفة مهدّمة ولا دور أخير.
…………….
الحبّ
الحبّ
كان ضربة واحدة دون فأس
أو يد
كان دلواً من الماء البارد
تسبح فيه الرأس والقدمان
وكان سريراً في مستشفى
ودماء تنقط من الغرفة للحمام.
الحبّ
كان تقيؤاً في بيوت الأصدقاء
وهم يجرون هنا وهناك
باحثين عن أمل في النجاة.
الحبّ
كان جارحاً كشوكة في وردة
في حديقة مبلولة في بيت مهجور
عاش فيه رجل وحيد
ودُفن في إحدى غرفه.
الحبّ
كان الغرفة.
كان حذاء الرجل الذي لم يفنَ.
كان الستارة المهترئة
التي سترت بقاياه قليلاً.
الحبّ
كان خادمة الرجل الوحيد
التي تضرب الأولاد المتطفّلين
وتمضي لتبكي وحيدة
أكثر وحدةً من صاحب البيت.
الحبّ
كان اللحظة التي تضرب فيها الأولاد
وهم يتسلّقون أشجار التوت
في الحديقة المهجورة.
الحبّ
لم يكن أبداً شجرة التوت.
الحبّ
كان هي
بوجهها المستدير وعينيها الذاهلتين
هي التي كانت مرّة واحدة.
الحبّ
كان قفزة من الدور العاشر
كان تفتّتاً على الطريق
كان نقاط الدم من الرصيف إلى عربة الإسعاف.
الحبّ
كان الجسد النحيف الذي قذفوا به مرّة من السيارة
وكان السيارة التي تخبط عمود الإنارة.
الحبّ
كان الدولاب المغلق
في الغرفة المغلقة
في بيت الجدّ المغلق.
الحبّ
كان السيجارة المشتعلة
لحارس بيت الجد.
الحبّ
كان اللصّ الذاهب ليسرق بيت الجد.
الحبّ
كان السيّدة المريضة
كان الرعب من جسدها الذاوي
وعينيها
والطعام المسلوق الذي يحملونه إليها.
الحبّ
كان الفأس التي تضرب.
الحبّ
كان اليد التي تمسك الفأس.
………….
مدينة صغيرة لقدمي
شارع شبه مظلم
في وسط مدينة أو على حافتها
في شمالها أو خارجها قليلاً
ترى فيه بوضوح بقايا شحوم
بلون زيتونيّ
مضافاً إليها لون الأسمال التي يضعها مفترشو رصيفه
بقططهم وكلابهم التي تزهو باللون نفسه،
وعلب الصفيح تحت أقدام العابرين قادمةً من مصانع قديمة،
من سلالم حلزونية يصعد عليها العمال بأحذية داست في الطين والأمطار،
ومن خوف طفل كان يرعبه السلم الحلزونيّ وهو مندس في يد أبيه
عائدين ليلاً من زيارة لقريب.
السفن كذلك كانت تطنّ في البعيد على بعد مئات الأميال
لكنّ شحوم تروسها الهائلة كانت تصل إلى هنا
وكان المسافرون والعاملون عليها يخوضون بأحذيتهم كذلك في هذا الشارع.
سترات الجنود العائدين من الجبهة تتموّه داخل اللون نفسه
وتتدرّج في التواءات ثعبانية
وعلى القرب محطة القطارات بقضبانها التي تغوص في رمال وأحجار
وتطرطش فوقها البقع نفسها المشرّبة في الرمال،
ثم العربات العتيقة، عربات البضاعة والركاب المركونة منذ عهود
بصدئها حامل اللون.
مدينة شبه خضراء شبه سوداء.
.
في الغروب تبدأ رحلة الكائنات الخارجة من الشقوق
ومن مواسير المجاري العملاقة المنتشرة على جانبي الترَع
تمهيداً لتسوية حضارية مع النبات،
حيث سيخفونها في قلب الرشاح ويطمرونها بالأوساخ العالقة منذ زمن.
رحلة تمتدّ حتى الصباح التالي ومن ثمّ عود على بدء.
فرقعة كرة بلاستيكية تحت الأضواء الكاشفة
والبحث من جديد عن أخرى أكثر تماسكاً
يخفيها أحد اللاعبين لمثل هذه المناسبات.
ثم اصطياد العصافير بمنجنيق صغير والأكثر حظاً ببندقية رشّ.
وفابريقة على القرب تجمع المتسرّبات من الدراسة
حين يخرجن في المساء بصدورهن المفتوحة
تتزلزل المدينة لبضع دقائق،
تقف على قدمين،
تتبدل ألوانها القاتمة للحظات،
للحظات فقط.
.
الزيارات اليومية للأقارب تتوزّع على عشرة بيوت قريبة
وأحياناً أسفار صغيرة لبيوت على الحافة
وضحكات ليلية وكلام لا ينقطع،
نشاط دائب في الحلّ والترحال
وأفراح وطلقات نارية ودماء على المنديل الأبيض
وصراخ طفلة يدوم مدى الحياة
وأغنيات في مديح الأب.
.
كانت المرّة الأولى التي تسقط فيها أمّي
وكنت قليل الحجم أرى أمّي تكبر فجأةً وأبكي،
أمّي تسقط في الشارع، تسقط حاملة هديّة العرس،
يتناثر السكّر والأرزّ والمكرونة تتفتّت على الإسفلت
وزجاجات الشربات ترنّ فقط ثم تتكوّر على نفسها وتبقى صامدة
وأنا وأمّي نبكي، أمّي شاخت وسقطت في منتصف الطريق.
أنا أيضاً سقطتُ في يوم لاحق،
كوّمتني أمّي على الرصيف ومضت لتكمل تسوّقها،
كنت أتقيأ داخل جسدي،
لم أشأ أن أترك بقعة مني على رصيف غريب
وروائح القلي والصلصة تفتح في تقيؤي آخر جديداً،
سلسلة من الفوران لا يوقفها سوى غيام الرؤية والانكفاء على النفس
والطبيب يؤكد أنها ضرية شمس، الشمس أيضاً تضرب،
فقط أعرف ضربات المعارك اليومية،
الحرب بين شارعين في الحيّ نفسه واتّحادهما في اليوم التالي لحرب ضدّ آخر قريب.
لنا قريب قاتل يجلّه الجميع وزيارته لنا يوم عيد.
الضربات موجعة أكثر في الشتاء لكنّ الدم يفضّل السيلان في الصيف،
الدم متاح هنا بوفرة،
تلعلع سكين وتقفز عصا في الهواء،
وأمّي تحارب وحدها عائلة بكاملها في النهار
وفي المساء يفضّ الرجال الأمر كلّه بكلمات طيبة.
.
نمت قدمي قليلاً، حتّى جاوزت أحذية الأب اللامعة بنمرتين
ومن ثم انكفأت تبحث عن عمل صيفيّ يؤمن لها حذاءً على طول العام،
قدم تسعى مع زميلاتها تضرب الأرض.
قدم داست المزارع في الغروب
باحثة عن سلوى لآلام الأمّ الذاهبة إلى العجز بإيقاع متسارع،
في المزارع نفسها كانت الأمّ تعدو هاربة وصاحبتها
بعد أن رأياً عملاقاً بيده عصاً خضراء
رافعاً حمل البرسيم بيد واحدة وقد انبثق فجأة في وسط الحقل،
انبثق من اللاشيء وإليه مضى في غمضة عين.
دقة زار والتكوّم على الأرض
والرجل بلحية كثة يرشّ ماءً على الأرض ويعزّم،
تسقط أمّي على الأرض من جديد،
تسقط ببكائها وآلامها الغريبة،
الجميع يتركونها تسقط ويتفرّجون،
“دعوها تخلص”، يردّد صوت لقريبة، لابنة عم، لامرأة مجربة،
دعوها تسقط وتسقط دون رحمة
على الأرض
هذه الأرض كانت نهراً
كانت بساتين، كانت حقول برسيم
كانت أقدامهم المغروزة في الطمي
الحكايات التي جمعها وصنّفها ورتّبها آباؤها
على الأرض نفسها تسقط
دون خضرة، دون ندى ترتاح عليه
تسقط فوق المسامير وأغطية الزجاجات وشظاياها.
.
ماتت كلّ جاراتنا
بقيت واحدة في نهاية الشارع لا نراها.
أجرش ثوماً في المساء وأمضي إلى النوم
إلى الغثيان
أجرش ثوماً وأعدو هارباً في الصباح التالي
سلك الكهرباء على جسد الجار الشابّ
جسد الشابّ على سلك الكهرباء
وصرخة واحدة ترميني في البيت من جديد
والشابّ يسقط على الأرض
بصرخته والكهرباء في يده
تسلمه إلى الأرض نهائياً.
والجارات يفترشنها ليلاً
ونحن نلعب أمامهنّ كالكتاكيت والقطط
نلهو بكلابنا التي تنتعش في حضورنا مساء
وتقضي النهار في خرابات بعيدة
ونحن نجري وراءها في أيام نشوتها القصيرة
نفصل الأجساد المتحابّة ولا تنفصل
بالعصيّ، بالماء الساخن ولا تنفصل
وعواء حزين لا يفهم غباء هادمي اللذّات
وضحكات مكتوّمة لنسوة مطلاّت من الشبابيك.
.
رجل على درّاجته
يتحرّك في نطاق لا يتجاوز خمسة كيلومترات
في اليوم والليلة
مرّة تنفجر إطارات عجلاته
مرّة ينقلب بالأحمال التي يرصها عليها
مرّة يسقط الرجل ودرّاجته تخبط الأشجار ومقدّمات السيارات
وأعمدة النور، تدور حول نفسها وتتهاوى
كالذبيحة التي أناموها على جنبها ونفخوها بالهواء
والدرّاجة والحذاء الذي يضرب دواستها
يلمعان في غبش المساء.
الرجل ودرّاجته يعلوان بضعة سنتيمترات عن المارة
وببعض الزهو يصلان أخيراً إلى البيت.
.
كلّ ذكريات الصباح ماتت في الليل.
مرّة كشف قريب له، بين الجدّ والمزاح
عن ولد له يشبهه تماماً
يقال من امرأة كان يودّها قديماً.
طرد الضيف بلا رحمة
وأبداً ما ظهرت الحكاية ثانية
ضاع الولد كعملة ورقيّة سيتمّ تعويضها قريباً
الحكاية ضاعت كذلك ولن يتمّ تعويضها إلى الأبد.
.
كان يجوب المدينة نهاراً
على أمل أن يتفهّم تناقض طرقاتها وبيوتها
كان يحلم أن ينتقل البيت، بقدرة قادر، إلى شارع الأجانب
وقد رحلوا جميعاً
بضعة مترات يتزحزح البيت ليستقرّ بين بيت أمين أفندي وبيت توفيق بك
في الهدوء القاتل ونسمات الياسمين
بضعة مترات وبعدها سيكون روائيّاً
يقضي بقيّة عمره في تفصيص الأحداث
واستدعاء الراحلين
وبثّ المزيد من الرعب في البيوت المهجورة.
.
مضينا بين العربات، عبرنا ترعة وحقلاً، فتحنا بئراً وبصقنا داخلها، ظللنا نبصق حتى خرج الوحش القابع بالأسفل، لم نخفْ، واصلنا البصق حتى عاد إلى مكانه. جاء آخرون حدقوا في البئر، رأوا صورتهم ولم يشعروا بالوحدة ونحن لم نعد للبئر ثانية، فعلى حافتها رصّوا حجارة بيضاء سرعان ما علتها الطحالب وكلّ من ذهب إلى هناك سقط بالأسفل ولم تُعده كلّ بصقات العابرين الجدد.
…………..
صدر عن دار ميريت 2008
……………
اقرأ عن الديوان
***
محمد خير
حسن عبد الموجود
يوسف رخا
إبراهيم فرغلي